تتيح التطورات السورية المجال لنمو فرصة جديدة لولادة "المشرق العربي" مجدداً بمشروع قائم على التكامل بدلاً من التصادم. تمّثل سوريا نقطة استراتيجية تتقاطع فيها قوى إقليمية ودولية عديدة، يمكن لها أن تتصادم وتتقاتل، كما كان يحصل أيام نظام بشار الأسد. ويمكن لها أن تتقاطع بناء على مصالح مشتركة، فتتشكل نواة الفرصة والمشروع. كان حافظ الأسد من أبرز الذين عملوا على الفكرة الثانية أي تعزيز وضعيته في الداخل من خلال تقوية علاقاته وتحالفاته الخارجية، والحصول على اعتراف دولي وعربي بمشروعيته بناء على تلبية مصالح كثيرة لقوى خارجية، فتمكّن من التفرغ للداخل الذي حكمه بقبضة من حديد، وأغلقه على أي انفتاح سياسي، اجتماعي، ثقافي، واقتصادي. يمكن للإدارة السورية الجديدة، أن تفكر بالشروع في اللعب على التوازنات كما فعل الأسد الأب، لكن ما هو غير ممكن، إعادة المجتمع السوري بشرائحه ومجموعاته المختلفة إلى "شرنقة" جديدة. عدم الانتباه إلى هذه المسألة، قد تولد إشكالات كثيرة بالمعنى السياسي، وصراعات حول "وجهة الدولة ونظامها السياسي"، وكلاهما يمكن أن يؤديا إلى صراعات دموية.
مقتضيات المؤتمر
لم يكن تأجيل المؤتمر السوري العام الذي كان يفترض عقده يوم الخامس من كانون الثاني بالأمر السلبي، فمثله يحتاج إلى تحضير متكامل، وبالحد الأدنى توفير الخدمات الآمنة على المعابر وتشغيل المطارات لفتح أبواب البلاد أمام كل المعارضين الذين هجرهم النظام السابق، وهم يريدون العودة للمشاركة في وضع تصوراتهم. كما أن المؤتمر يحتاج إلى وضع إطار عام بين مختلف المكونات والكيانات السياسية، بما فيها من هم يمثلون النظام السابق، لأنه جزء من مكونات الشعب السوري، ولهم حضورهم في الإدارات والمؤسسات المختلفة، ولا يمكن اختزالهم، وطبعاً لا يمكن تكرار تجربة العراق في "اجتثاث البعث"، لأنه لن تولد إلا حرباً أهلية لا تنتهي.
منذ الأيام الأولى في التحضير للمؤتمر السوري العام، حصل التباس في المصطلحات، بين من يصفه بالمؤتمر العام، ومن يصفه بحوار مرحلي يمهد السبيل لانعقاد لانعقاد المؤتمر العام، والذي يفترض أن يضم كل مكونات الشعب السوري، سواء بشكل فردي أم على مستوى الكيانات من الاتجاهات المختلفة، لوضع الرؤى المتعددة وإنتاج رؤية شبه موحدة ترضي الجماعات المختلفة وتحفظ حقوقها. يمكن للحوار الذي سيجري بين هيئات مختلفة أن يكون هو المنطلق التأسيسي للمؤتمر السوري العام، وليس على قاعدة "تطعيمه أو تلوينه" بشخصيات لديها انتماءات مختلفة، بل أن يكون التمثيل فعلياً، ولكل المكونات رأيها وطرحها. ويمكن لهذا الحوار أن ينتج تكتلات سياسية جديدة تشكل توازناً بالمعنى السياسي مع هيئة تحرير الشام، كي لا تبقى وحدها كحزب أوحد والكيانات أو الكتل الأخرى هي مجرد هوامش وحواشي.
العرب ولبنان وسوريا
لطالما كان هناك رهان سوري ولبناني مشترك، على انفتاح عربي على البلدين والحصول على مساعدات واستثمارات اقتصادية، معطوفة على استقرار سياسي. هذه الفرصة قائمة اليوم ومتاحة بعد التطورات التي حصلت في سوريا، بدءاً من عدم العودة إلى "الحكم الواحد" أو التحالف مع "محور واحد". وجعل البلدين ساحة مفتوحة لتقاطعات عربية وإقليمية ودولية، شرقية وغربية. وذلك يبدأ من تعزيز منطق الحوار الداخلي على أسس إعادة بناء الدولة، وليس على كيفية الاستئثار بالحكم أو الحجم المقتطع من "حصة السلطة". فسوريا معنية بحوار جدي ينتج عنه مؤتمر عام يشارك فيه كل السوريين، الذين يفترض رعاية مصالحهم وتطلعاتهم وتوجهاتهم. ولبنان أيضاً معني بالعودة إلى حوار وطني شامل حول الدولة وآلية تطويرها وتطوير نظام الحكم.
في هذا السياق، تبرز اندفاعة عربية باتجاه سوريا ولبنان، من أبرز تجلياتها هي العودة السعودية والاستعداد للانفتاح والتعاون، والذي لا بد من العمل على استقطابه من جديد بعد غياب عن ساحات المشرق العربي دام لسنوات، إلى جانب غياب أي مشروع عربي واضح، ما أنتج فراغاً جرت تعبئته من خلال قوى إقليمية أخرى، كإيران، أو جرى العمل على زيادة نسبة هذا الفراغ المبني على تدمير الدول وحواضرها الاجتماعية ومؤسساتها، كما تفعل إسرائيل. أبرز ما تحتاجه سوريا اليوم هو العودة إلى نوع من التكامل الإقليمي العربي. وهذا من مسؤولية القيادة الجديدة التي لا يمكنها أن تبقى في كنف جهة معينة، ولا الانتقال إلى كنف جهة أخرى من دون غيرها. كما أنه لا يمكن للقيادة الجديد أن تستند على تعزيز العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية التي تتقاطر إلى دمشق. فهذه الدول لها حساباتها ومصالحها، وهي لا تأتي من باب الانفتاح على هيئة تحرير الشام واحتضانها.
الأمن والأمان
إلى جانب المسؤولية السياسية المتصلة بالحوار ومستقبل الدولة السورية، لا تزال هناك مسؤوليات كبرى تقع على عاتق الإدارة الجديدة، وأبرزها التحديات الأمنية وتوفير الحماية لكل مكونات المجتمع السوري، وليس الاكتفاء بالطمأنة على المستوى الشكلي والمعنوي، بل فعلياً، بالإضافة إلى إعادة تفعيل عمل أجهزة الشرطة وتفعيل عمل المؤسسات ككل. أما المسؤولية الأكبر تبرز في التحديات الأمنية أو الانتقامية التي تحاول بعض الجهات المحسوبة على الثورة أو على الإدارة الجديدة، القيام بها، وخصوصاً في الساحل السوري. فلا بد من ضبط أي عمليات انتقام أو استفزاز للسكان في الساحل السوري ولا سيما أبناء الطائفة العلوية. بالإضافة إلى أهمية الخروج بتقارير يومية توضح حقيقة ما يجري على الأرض. وبحال كان هناك فيديوهات تحريض قديمة يتم نشرها، فذلك يحتاج إلى توضيح على المستوى الإعلامي، وعلى المستوى السياسي من خلال تعزيز التواصل مع وجهاء المنطقة والمعنيين فيها، بالإضافة إلى توفير كل ظروف الأمن والأمان واحترام المكونات. أي عملية من هذا النوع تتناقض مع مبدأ "عدم الانتقام"، لا سيما أن جهات عديدة ستسعى إلى استدراج هيئة تحرير الشام لتنفيذ مجازر وارتكابات، أولاً لتوريطها وثانياً لنزع أي صفة وطنية عنها، وحصرها في مشروع أيديولوجي يستدعي مشاريع أخرى مقابلة تدخل سوريا في الحرب الأهلية.
النفوذ التركي
هناك تركيز على الاستثمار التركي في سوريا والاستناد على قوتها الاقتصادية، وهو ما يفترض مقابلته بتوازن عربي، خصوصاً أن العنوان الأساسي في سوريا الخروج من السطوة الإيرانية. ولذلك، لا يمكن الاتجاه نحو نوع من السطوة التركية، والتي يجب أن يوازنها دخول عربي وازن. أما في حال أرادت أنقرة أن تتولى هي اختزال سوريا بتوجهاتها واستثمارتها، لا بد لذلك أن يستدعي تدخلات أخرى، فإيران جاهزة ولا تريد أن تستسلم، كما أن دولاً كثيرة في المنطقة من معارضي اتساع أو تمدد النفوذ التركي ستكون جاهزة لضرب هذا المسار وإضاعة فرصة حقيقية تتركز على إنتاج مشروع جديد في المشرق العربي، من خلال التكامل ما بين كل مكوناته الاجتماعية، القومية، العرقية والطائفية.
لا يمكن تغليب الجانب الخدماتي والاقتصادي ورفع العقوبات والاعتراف الدولي، على حساب الحيوية السياسية. ومعلوم أن مرتكزات الاقتصاد السوري موجودة في شمال شرق سوريا، وفي مناطق ذات غالبية كردية، لذا فإن الأولوية السورية هي لانتاج نظام حكم مبني على التفاهم والتعاون مع الأكراد، وعدم ترك المجال أمام أي مشروع تركي لضرب المجموعات الكردية. وما ينطبق على الأكراد يفترض أن ينطبق على العلويين والدروز والمسيحيين وكل المكونات الأخرى. هذا ما يفرض خلق الحيوية السياسية في كل المجتمع السوري وفتح المجال أمام تأسيس الأحزاب السياسية المختلفة والمتنوعة تحضيراً لخوض الاستحقاقات الانتخابية.