كل نهاية هي استئناف لبدء آخر وكل بدء تراه يستبطن ذكريات ما قد مضى. يقول الياباني كاواباتا في إحدى رواياته: يجب التحلّي بذاكرة قوية لدى الإقدام على ارتكاب السيئات. جلّ ما نتمناه هو ألا تكون ذاكرة العام 2024 قوية إلى هذا الحدّ. إن المستقبل بالإجمال فرضية لكنه في مجمل نواحيه عبارة عن آمال مختزنة داخل أدراج التفاؤل.
فضلاً عن كونه فرضية إن المستقبل علامة استفهام ضبابية أمام أسئلة جمة. قد تكون الأجوبة شافية وقد تكون محلّ شقاء... أما المستقبل حتى بعد معايشة الأجوبة فلا يكفّ عن أن يكون علامة استفهام ضخمة.
تنتهي الـ2024 على كرب شديد، على ألم وحزن وعلى حرب عبثية لكنها من جهة أخرى تنتهي عقب الحدث السوري على تعقّب بعض التفاؤل المرتبط حكماً بفرار الأسد.
كان فيكتور هوغو يقول: كل ما يرفع من قدر المرء يطمئنه. فما الذي قد يرفع من قدر اللبنانيين في السنة المقبلة؟ إن الجواب كما أظنّ يقع في عالم الغيب ذلك أن ما قد يطمئن هذا اللبناني قد يكون مصدر رعب للبناني آخر وهكذا دواليك... إنه لبنان منذ أن كان، مع هذا لنختلس النظر إلى زيح التفاؤل الشحيح.
في دراسة له عن غوته، يقول فالتر بنيامين (وعذراً لإيرادي هذه الأسماء وما سيلي من أسماء غيرها، فهذه الأسماء وغيرها هي أيامي التي قد مرّت والتي ستأتي في التالي من السنين): يحدونا الأمل -يقول بنيامين– فقط بسبب أولئك الذين لا أمل لهم. قد يشكّل اللاأمل مسعى لاختراق الصعاب... قد يكون محطة توقّف بانتظار وصول قطار النجاة، قطار الأمل.
يتكلم إبسن عن "كذبة العمر" ويقصد بها تلك الكذبة التي يكذبها الإنسان على نفسه ويتحمّل عبرها أعباء الحياة. لن أكون متشائماً وأقول إن المستقبل في بلدنا الحبيب لبنان لا يتجاوز أن يكون كذبتنا كما صاغ المسرحي النرويجي هنريك إبسن هذه الكذبة، لكني سأردد مع "بطته البرية" (إسم مسرحية لإبسن) القول: إذا مَنَعتَ المرء عن كذبة حياته فقد منعته عن السعادة للأبد. فلنتمسّك إذن كلبنانيين بكذبة هناء مستقبلنا.
إن المستقبل هو في بعض شيفراته مثل النص الذي يُنسج بخيوط التوقعات والغربة، فهل سنملك في لبنان رفاهية أن ننسج نصّنا طوال ال 365 يوماً القادمة؟ لست أدري، فالعالم حولنا ليس محنّطاً وبالطبع ليس محلّ جمود وأكثر ما يشتهيه المرء هو أن ينسج خيوط أيامه الجميلة بصرف النظر عن شيفرات نصوص الآخرين.
يتكلّم يوسف زيدان في "الورّاق" عن الإفصاح باعتباره ترفاً قد يُحرم منه المرء تحت وقع الحذر الشديد. قد يكون الحذر حيال العام المقبل في محلّه لكن الإفصاح يجب أن يكون سيّد الموقف والحدود. فمن المفروض أن ما سيلي من أيام هي لنا ومن المفروض أن اللسان يهوى حبك قصص أيامه ولياليه. بالتالي، إن الحذر في هذا السياق هو عقبة أما كرّ الأيام في العام 2025. فيا له من عام جميل إذا ما نجحنا في التخلّص من غموض الحذر ولهيبه الطويل. ففي لبنان كثر هم أولئك الذين يهوون نار الغموض وربما علينا في هذا السياق الإستعارة من ريجيس دوبريه عندما تكلّم في كتاب "النار المقدسة" عن صائدي الأصوات من أنبياء وزعماء وبهلوانات وقادة وسياسيين وغيرهم من الذين يحرصون على تجذير الغموض في ماضي ناسهم وفي حاضر هؤلاء الناس وبشكل خاص في مستقبلهم. يشعر المرء أن ثمة تواطؤاً جهنمي بين كلّ هؤلاء من جهة والحذر الدائم من المستقبل من جهة أخرى وهو حذر لم يكف يوماً عن أن يشكّل خريطة يومياتنا في هذا البلد الغريب... واستطراداً، يا لمتعة دفق كل هذه الأسماء في متون هذه المادة عن الإنتهاء والإبتداء وعطفاً على هذه المتعة أراني أستظلّ المؤرّخ الفني هيرمان بلاي الذي يقول في رائعته التأريخية "ألوان شيطانية وألوان مقدسة": لا تنمو شجرة من الأشجار إلا إذا دفعتها قوة الإخضرار. وبالعودة إلى الـ2025 لست أدري ما هي تلك القوة التي ستدفع بالإخضرار لأن يكون سيّد المشهد في شجرة هذه السنة التي أرى إليها تدنو وقد أحاطت نفسها بلفتات اليقظة والحذر من كل حدب وصوب مع الأمل أن يكون أخضرها وارفاً وهو حلم ما انفكّ يراودنا في لبنان الأزمات والأحلام الضائعة.
... أما الأحلام، فيا للأحلام! كان اسكليبوس إله الطب اليوناني يقدّم وصفاته للمرضى في شكل أحلام. وكم نحن مرضى العام 2024 وما سبقه من أعوام بحاجة إلى أحلام أسكليبوس للخروج من مآزق تاريخنا، فسفر خروجنا في هذا البلد يبدو أنه صعب المنال.
على المستوى الشخصي –الشخصي جداً- إن سفر الخروج من مرحلة إلى مرحلة ومن عام إلى عام لطالما كان عبر تلك الأسماء التي وردت في هذا المقال وغيرها الكثير جداً من الأسماء، إنهم الأصدقاء الأقربين. فالتصدي لضباب المستقبل ودياجيره يقتضي في بعض الأحيان عقد صلات الصداقة مع الأحياء والموتى مع ناس الحاضر القريب من طينة هؤلاء ومع ناس الماضي البعيد فالأمر سواء. كان القديس أوغسطين يقول إن أقدام السائرين قد تكون هي بعينها أحاسيس القلب، فلا بأس بالتالي من تتبّع خطى سير هؤلاء في لجة الإنتقال من عام إلى عام.
أنهي مع غاستون باشلار في حكيه عن تلك الصلاة التي كان يرفعها إلى إله القراءة مهما كانت الصعاب، ذلك الإله المتكدّس فوق طاولته ليل نهار كما يقول. إن التجربة علّمتني أن إله باشلار هذا هو الأقدر على الطبطبة بحنو مهما كانت زحمة السنين. فأنا وقد وجّهتُ نظري نحوه بما فاق توقعاتي طيلة 2024 أراه متجلياً ببهائه الكلي مع بدايات 2025. فعبر هذا الإله الصديق يلقى المرء السكون حتى في أحلك الظروف، إنه الإله الطيّب الذي أوحى لباشلار بالقول: هناك شواطئ اطمئنان حتى في قلب الكوابيس.