من الجيد أن نحمل قصة مميزة عن أحدهم، خصوصاً أن الثورة السورية وسقوط النظام يتفكك في السرد والمخفي، وكأن هاجس الخوف الذي افتقد فجأة لن يكون سوى أداة لانفجار الطاقة السردية والأسرار التي تصلح لتكون مآثر إنسانية. انتهاء النظام السوري هو ولادة للمخفي، وللأخلاقي والجمالي، وكأن هذا الجلل لا ينتهي. ومع هذا التحول، يظهر التوازن الأخلاقي المستعاد، حيث تبدأ قيم أخلاقية جديدة في التشكل، تُعيد ترتيب ذاكرة المجتمع وتفصح عن الكثير من مكبوتاته وصمته. فما كان خفياً سيتجلى، ليضع أثره العميق على المجتمع، كاشفاً عن قصص وأحداث ظلت مكبوتة، لكنها تحمل في طياتها معاني إنسانية جليلة.كان على محمد حداقي أن يظهر من بعيد، حيث ظهر محمد آل رشي في مقابلة يسرد فيها مخاوفه وقلقه جراء محاولات اعتقاله، وذلك لمشاركته في عزاء ودعم مظاهرات سلمية خرجت في دمشق، والخوف الذي لازمه بينما خرج بسلام من سوريا ذُكر محمد حداقي على لسان آل رشي ما أسماه الملاك الحارس الذي أسكنه في بيته ونقله لاحقاً إلى مكان آمن وبيت جديد لكي لا يعتقل محمد آل رشي وصديقه فارس الحلو. الدرب الخاص بالسوريين يحتاج إلى مُطهر عميق، فحجم العنف والسخرية الذي استُهدف به الفنانون كان ملفتاً بشكل غير مسبوق ما أن سقط النظام. ويتداول السوريون المقاطع للفنانين ويبحثون عن كل هفوة أدت إلى دعم النظام أو الدفاع عنه، الطبقة الفنية التي اعتمد عليها النظام لتلميع صورة البلاد وتأطيرها ضمن إطار يبدو لائقاً، تحولت إلى هدف للسخرية والهجوم، حتى بدا الأمر جنونيا فجاءت قصة محمد حداقي وآل رشي من بعيد لتضفي شيئاً آخر.
تحدث محمد عن مساعدة حداقي له أثناء الهروب، وعن الطرق المخيفة التي اضطر إلى سلوكها للوصول إلى منزل آمن. لم يظهر حداقي بقوة عبر التصريحات الإعلامية، حيث درجت العادة في سوريا على ممارسة الصمت المدروس. هناك آليات للتموضع الرمادي في سوريا، حيث يختفي التعبير عن الوضع السياسي كصمت مدروس لحماية الذات، والامتناع عن الحديث السياسي لتجنب المخاطر المحتملة، والتي تبدأ بمنعه عن العمل، ولا تنتهي بإجراء تحقيقات طويلة ومهينة وقد تنتهي بالاعتقال.كان آل رشي في ظهوره المتلفز مسرحياً، حيث أدى في الاعتراف بمساعدة الحداقي له بنية أخلاقية تقوم على وجهتين، الصفح والاعتراف. مارس آل رشي اعترافاً تحويلياً لتغيير الإدراك الذاتي والمجتمعي للسوريين، مقدماً مشهد أداء اعترافي يبرز معالم الخوف التي أعيدت لوجهه والدور الذي لعبه صديقه في إنقاذه. مقدار المصداقية التي عبر فيها آل رشي تُظهر أبعاداً شديدة العمق في فهم الحالة السورية وفي تأثير الموقف عليه، كانت الثورة كلها في مطرحٍ ما، وتجربته الشخصية في النجاة مع فارس الحلو بمساعدة الحداقي بمطرحٍ آخر، كأن على السوريين أن يشهدوا هذا الأداء كخطوة نحو الصفح المجتمعي المطلوب لتخفيف الصراع وفهم مكامن الخوف والنطاق التحويلي للعيش داخل سوريا. كان على شيء ذائب في شخصية حداقي أن يظهر عبر صوت صديقه، ووجهه وآلامه التي أعادها وكرّسها على الشاشة. وكان على بنية نفسية لآل رشي أن تستريح ما أن تجاوز سرد القصة، وكأن خروجه من الموت رمزياً وجسدياً تم بمساعدة الحداقي.خرج آل رشي وهو يرفض كل أشكال القمع المجتمعي والمصطلحات التي تهاجم الفنانين كمحاسبة لأرائهم أو لصمتهم عن جرائم النظام، مُشكلاً فرضية أن الخوف الذي شكله النظام لا يمكن مقاربته أو فهمه بسهولة ونقده لنظرية البطل بوصفها مطلوبة من الجميع.الهيمنة الخارجية للنظام لا يمكن مواجهتها، ومع ذلك كان حداقي من القلائل الذين قدموا اعتذاراً وأرفقوه بتعليل ذاتي، كانت مقابلة الحداقي منتظرة وذلك لفهم القصة والاستماع إليه كمواطن وإنسان يملك قصة جعلته نجماً جديداً في أعين السوريين، خاصة حينما بدا متواضعاً ومتحدثاً بحكمة، معترفاً بعجزه أمام الاستعلاء الذي فرضه النظام. لم يتخل حداقي عن اعتذاره للشعب، بل أكده بتقدير قوة الشعب ودور الفنانين الآخرين في مقاومة القمع وواصفاً عجزه عن فعل أي شيء بالخوف الذي التبسه. ورغم تكراره لفكرة الاستعلاء الذي يفرضها النظام كشكل من أشكال التفوق الذي أرسم على حداقي شعوراً بالخوف والخجل في التعبير، إلا أن مشاركته في حماية أصدقائه كانت فعلاً جوهرياً في سيرته، ووضعت جزءاً من مواقفه موضع احترام وشهادة على شجاعته الإنسانية.ينتمي كل من محمد حداقي ومحمد آل رشي إلى جيل تجاوز الخمسين من العمر، جيل عرف الأسد الأب والابن جيداً، وشهد تحولات النظام عبر العقود. كلاهما يعد من المواهب البارزة في السياق السوري. آل رشي، الذي كانت مسرحياته في دمشق تثير جدلاً بسبب عمقها وفنيتها واختلافها، أصبح رمزاً لفنان مسرحي جسور لا يخشى تحدي السائد في مسرح مقيد ومقموع. أما حداقي، فقد استحوذ على كل شخصية أداها، مضيفاً لها بعداً فريداً جعلها تعيش في ذاكرة الجمهور. وفيما يخص فارس الحلو، الضلع الثالث في القصة، فقد كان من أكثر الشخصيات تأثيراً في الدراما السورية والكوميديا، إذ مثّل جوهراً لا يمكن تجاوزه.في العلاقة الجدلية بين هؤلاء الثلاثة، ينبثق أثر إنساني خاص لا يحمل طابعاً فنياً أو تعاونياً، بل إنسانياً بامتياز. هذه القصة ستتحول إلى مدار فكرة مكررة لكثيرين ممن أخفوا ثواراً، أو خبأوا هويتهم كالكتّاب، أو قدموا المال لدعم أم معتقل. إنها شهادة على شجاعة فردية في بلاد يُجبر فيها النظام الناس على القمع التعاوني الإجباري، حيث يُحول الخوف الجمعي المُسيّر إلى أداة طيّعة لفرض هيمنته على تفاصيل الحياة برمتها. ومع ذلك، يظهر اتساع الهامش الإنساني للمقاومة، من خلال أفعال صغيرة لكنها شجاعة تُعيد تعريف النضال الإنساني، وتبرهن على أن الروح البشرية قادرة على تجاوز القمع مهما بدا قوياً. ما يكون جديراً في القصة أنها فتحت باباً للكثير من السوريين ليكونوا شركاء في حدث كبير، خصوصاً أن بعض لتفاصيل الصغيرة أنقذت حيوات البشر.