في تطور يُعد نقطة تحول في تاريخ مصرف سوريا المركزي، تم تعيين الدكتورة ميساء صابرين كأول امرأة تتولى منصب حاكمة مصرف سوريا المركزي. هذا التعيين لا يحمل فقط رمزية كبيرة على صعيد تمكين المرأة في المناصب السيادية، بل يأتي أيضاً في لحظة فارقة تمر بها البلاد عقب سقوط النظام السابق، وفي ظل بيئة معقدة تتطلب إدارة ماهرة وتفكيراً استراتيجياً. تتمتع صابرين بخبرة طويلة في القطاع المصرفي، حيث شغلت مناصب عدة أبرزها النائب الأول لحاكم المصرف المركزي، كما كانت ممثلة المصرف المركزي في سوق دمشق للأوراق المالية، وغيرها من المراكز.
بالتوازي مع هذا التغيير القيادي، أصدر مصرف سوريا المركزي سلسلة من القرارات التي تهدف إلى إعادة هيكلة النظام النقدي. أبرز هذه القرارات كان إلغاء المنصة الإلكترونية (القرار 1683/ل) التي كانت تُستخدم لتسجيل طلبات تمويل الاستيراد. على الرغم من أهدافها النظرية في تنظيم حركة العملات الأجنبية، فإن المنصة عانت من بيروقراطية معقدة وتأخير في الإجراءات، مما أضر بتدفق السلع إلى الأسواق وأدى إلى تصاعد النشاط في السوق الموازية. بدلاً من ذلك، تم تبني آلية جديدة تعتمد على التنسيق المباشر بين المصارف وشركات الصرافة والمستوردين، وهو نهج أكثر مرونة يُسهم في تسريع التمويل وتعزيز الشفافية.
إلى جانب هذا التغيير، تم اتخاذ خطوات لتعزيز الاحتياطي النقدي الأجنبي من خلال إلزام المصدرين والمنشآت السياحية بتحويل جزء من عائداتهم إلى النظام المصرفي (القرار 1684/ل). هذه الإجراءات، التي تتضمن عقوبات صارمة على المخالفين، تهدف إلى الحد من تهريب العملات الأجنبية وضمان استخدامها لدعم الاقتصاد الوطني.
في الوقت ذاته، اتخذ مصرف سوريا المركزي خطوة لافتة تمثلت في إلغاء بعض القرارات التنظيمية التي كانت تُثقل كاهل قطاعات اقتصادية حيوية مثل الطيران والسياحة. هذه القطاعات، التي تُعتبر من أعمدة الاقتصاد الوطني ومن أكثر القطاعات تأثراً بالأزمات المتعاقبة، شهدت تغييرات جذرية من خلال القرارات 1692/ل، 1693/ل، و1694/ل.القيود على القطاعاتفي قطاع الطيران، ألغى المصرف المركزي القيود التي كانت تفرض تنظيمًا صارمًا على إيرادات القطع الأجنبي لشركات الطيران. القرار (1693/ل) أعفى هذه الشركات من القرارات السابقة التي كانت تُلزمها بتحويل جزء كبير من إيراداتها بالعملات الأجنبية إلى المصرف المركزي. هذا الإجراء يهدف إلى تخفيف العبء المالي والتنظيمي عن هذه الشركات، مما يمنحها مرونة أكبر في إدارة عملياتها التشغيلية في ظل بيئة اقتصادية صعبة. من المتوقع أن يُسهم هذا القرار في جذب المزيد من شركات الطيران الأجنبية التي ستُشجّع على إعادة تسيير رحلاتها إلى سوريا، ما ينعكس إيجابيًا على حركة النقل والسياحة الدولية.
أما في قطاع السياحة، فقد جاء القرار (1694/ل) ليفرض إطاراً تنظيمياً جديداً يعكس توازناً بين تعزيز إيرادات الدولة ودعم المنشآت السياحية العاملة. ألزم القرار المنشآت السياحية بتحويل نسبة محددة من عائداتها بالعملات الأجنبية (50%) إلى المصرف المركزي، مع توفير تسهيلات لضمان التزامها دون أن يتسبب ذلك في إرباك أعمالها اليومية. هذه الخطوة تهدف إلى استعادة السيطرة على حركة القطع الأجنبي في هذا القطاع الذي يُعد مصدراً رئيسياً للعملات الأجنبية، خاصة في ظل التوقعات بانتعاش السياحة مع عودة الاستقرار.
القرار (1692/ل) كان بمثابة تتويج لهذا التوجه، حيث ألغى العمل بمنصة "سوا"، التي كانت تُستخدم لتمويل الاستيراد، وأعاد المسؤولية إلى المصارف وشركات الصرافة، في حين كانت منصة "سوا" تعتمد آلية تسجيل طلب التمويل عن طريق إحدى شركات الصرافة المحلية بدلاً من المصارف، ولكنها ظلت مرتبطة بالمنصة المركزية الالكترونية. الهدف هنا هو تقليل البيروقراطية، تسريع عمليات التمويل. مع الإشارة الى انه تم الغاء المنصة الالكترونية بموجب القرار (1683/ل) بسبب عدم فعاليتها في تحقيق الأهداف المرجوة منها، وهي كانت أداة مركزية أنشأها مصرف سوريا المركزي في السابق لتنظيم عمليات تمويل الاستيراد.سعر الصرفومع ذلك، فإن تحديد سعر صرف رسمي قريب من السوق الموازية، رغم أهميته في تقليل الفجوة بين السوقين، يثير مخاوف جدية. مثل هذه السياسات، تتطلب من المصرف المركزي ضخ المزيد من العملة المحلية، مما يؤدي إلى زيادة المعروض النقدي واحتمالية ارتفاع التضخم. هذه الخطوة قد تنعكس سلباً على القوة الشرائية للمواطنين وتؤدي إلى تقلبات جديدة في الأسعار، خاصة في ظل غياب استراتيجية متكاملة لضبط الكتلة النقدية ودعم الاقتصاد الحقيقي.
إضافة إلى التحديات الداخلية، قد تفتح الحدود السورية مع تركيا المجال لتدفق السلع والبضائع التركية بأسعار منخفضة، مما يشكل تهديداً مباشراً للمنتجين المحليين الذين يعانون أصلاً من ارتفاع تكاليف الإنتاج. هذا الوضع يتطلب سياسات حماية للقطاعات الإنتاجية لضمان قدرتها على المنافسة في الأسواق المحلية. في الوقت نفسه، تظل موارد النفط، التي تُعتبر شرياناً اقتصادياً أساسياً، خارج سيطرة الدولة، مما يحرمها من مصدر رئيسي للعملات الأجنبية.
رغم التغيرات السياسية، لا تزال العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على سوريا تشكل تحدياً كبيراً. هذه العقوبات، التي تختلف في نطاقها وجهاتها المصدرة، تتطلب مفاوضات مكثفة وإجراءات سياسية واقتصادية للتخفيف من تأثيرها واستعادة العلاقات الاقتصادية الدولية.
القرارات الأخيرة أظهرت توجهاً نحو اللامركزية، حيث أصبحت المصارف وشركات الصرافة هي المسؤولة عن الرقابة المباشرة وتنفيذ السياسات النقدية. هذه الاستراتيجية تُخفف العبء عن المصرف المركزي، لكنها تتطلب رقابة صارمة لضمان عدم إساءة استخدام هذه الصلاحيات. ومع ذلك، يظل الإطار التشريعي للسياسة النقدية بحاجة إلى تحديث يتماشى مع المتغيرات الاقتصادية، وهو ما يُشكل تحدياً أمام القيادة الجديدة.
في ظل هذه الظروف، يبقى استقطاب العملات الأجنبية من الخارج عاملاً أساسياً لتحقيق الاستقرار النقدي. تعزيز التحويلات المالية من المغتربين، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، وإعادة بناء الثقة مع المجتمع الدولي هي أدوات لا غنى عنها لضمان نجاح السياسات الاقتصادية الجديدة.
بالمحصلة، تعيين الدكتورة ميساء صابرين حاكمة للمصرف السوري المركزي يمثل بداية جديدة، لكنه يُحمّلها مسؤولية جسيمة في إدارة مرحلة انتقالية صعبة. القرارات الأخيرة تُظهر منحىً أيجابياً، لكن التنفيذ الفعّال والرقابة المستمرة سيظلان العامل الحاسم لتحقيق الأهداف المرسومة وبناء نظام اقتصادي مستقر ومستدام، في ظل التوجه نحو أقتصاد حر بحسب التصريحات الأخيرة الصادرة عن الحكومة الانتقالية.