بغياب أي مسار لإعادة الهيكلة الشاملة، لا يشكّل الزمن بالنسبة للقطاع المصرفي سوى المزيد من الاستنزاف في السيولة المتبقية، والتي يمكن استعمالها لضمان ما تبقى من ودائع. ومرور الزمن، يعني أيضًا تذويب قدر أكبر من حقوق المودعين، إمّا بعمليّات بيع الشيكات للمقترضين، أو بالسحوبات وفق أسعار صرف منخفضة. أمّا سياسة تقسيط الودائع لصغار المودعين، بتعاميم المصرف المركزي وعلى فترات زمنيّة طويلة، فتبقى بدورها ذوبانٌ مقنّع في القيمة الشرائيّة لهذه الأموال، بفعل التضخّم الذي تشهده الأسواق العالميّة والمحليّة على حدٍ سواء.
في مطلع العام، يمكن لجردة بسيطة أن تلخّص الوضعيّة الماليّة الراهنة للقطاع المصرفيّة، بعد كل ما طرأ من تحوّلات خلال الأعوام السابقة.وضعيّة السيولة في القطاعمن الناحية العمليّة، يمكن فرز السيولة المتبقية في القطاع إلى قسمين: أموال المصارف المودعة في الخارج لدى المصارف المراسلة، وما تبقى من الاحتياطات التي أودعتها المصارف لدى مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ تعاميم المصرف المركزي تنص على تحميل المصدرين –بالتساوي- كلفة السحوبات التقليديّة الشهريّة التي يقوم بها المودعون بالعملات الصعبة، باستثناء السحوبات الاستثنائيّة والإضافيّة التي يجري تحميلها بالكامل لاحتياطات مصرف لبنان (كحال الدفعة الاستثنائيّة والإضافيّة التي سيتم منحها للمودعين في مطلع هذا الشهر).
وفق آخر الميزانيّات المجمّعة للقطاع، تنطلق المصارف هذه السنة من سيولة إجماليّة يقارب حجمها الـ 4.15 مليار دولار أميركي، مودعة لدى المصارف المراسلة. وتجدر الإشارة إلى أنّ حجم هذه السيولة لم يتغيّر كثيرًا مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق، إذ لم تشهد هذه القيمة سوى ارتفاعًا سنويًا تقارب نسبته الـ 1%. ويمكن التنويه هنا إلى أن حجم هذه السيولة كان يقارب الـ 8.5 مليار دولار أميركي في مطلع العام 2020، قبل أن يتم استنزاف قيمة هذه السيولة تدريجيًا خلال فترة الأزمة الراهنة.
في مقابل توظيفات المصارف لدى المصارف المراسلة، يترتّب على المصارف التزامات خارجيّة بقيمة 2.52 مليار دولار أميركي، وهو ما يفترض تنزيله من قيمة السيولة المتوفّرة للوصول إلى حجم الاحتياطات المصرفيّة الصافية في الخارج. وعلى هذا الأساس، يمكن الاستنتاج بأن صافي الاحتياطات المصرفيّة بات يناهز اليوم الـ 1.63 مليار دولار أميركي، وهي القيمة التي يمكن للمصارف استخدامها خلال الفترة المقبلة، من دون خسارة قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها الخارجيّة. مع الإشارة إلى أنّ حجم التزامات المصارف في الخارج تناقص خلال العام الماضي بنسبة 16.44%، بفعل تسديد المصارف للمستحقات الخارجيّة الموجبة عليها، من السيولة التي كانت تمتلكها أساسًا في الخارج.
على مستوى احتياطات مصرف لبنان، تشير آخر أرقام المصرف المركزي إلى أنّ حجم السيولة المتبقية –من توظيفات المصارف لدى المصرف المركزي- بات يناهز الـ 10.18 مليار دولار أميركي. وجاءت هذه النتيجة في منتصف شهر كانون الأوّل الماضي، بعد أن شهد بند الاحتياطات تذبذبًا –صعودًا ونزولًا- خلال العام 2024، بفعل سياسة شراء المصرف المركزي للدولارات من السوق من جهة، واستنزاف الحرب لبعض هذه الاحتياطات من جهة أخرى.
في خلاصة الأمر، يمكن القول أن حجم السيولة الجاهزة للاستخدام، في احتياطات مصرف لبنان وسيولة المصارف في الخارج، بات يوازي الـ 11.81 مليار دولار أميركي، بعد الأخذ بالاعتبار التزامات المصارف الخارجيّة. وهذا الرقم هو ما يمثّل الهامش الممكن ضمانه من الودائع، بالعملة الصعبة في سياق أي عمليّة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. وهنا، ينبغي التنويه بأنّ عمليّة من هذا النوع قد تشمل إجراءات لسداد جزء من الودائع الكبيرة بالعملة المحليّة، وبأسعار صرف متعدّدة، بحسب ما نصّت عليه آخر مسودّات خطّة حكومة ميقاتي.وضعيّة الودائعفي مقابل هذه الموجودات بالعملة الصعبة، ما زال يترتّب على القطاع ما يقارب الـ 87.73 مليار دولار أميركي من الودائع بالعملات الأجنبيّة، من بينها نحو 3 مليارات دولار من الودائع "الفريش". أمّا حجم الودائع الإجمالي، بعد إضافة الودائع بالليرة اللبنانيّة، فبات يقارب اليوم حدود الـ 88.39 مليار دولار أميركي.
لغاية المقارنة، يمكن التذكير هنا بأنّ حجم ودائع القطاع الخاص كان يقترب في تمّوز 2019، أي قبيل انكشاف الانهيار المالي، من مستوى الـ 172.35 مليار دولار. وبهذا الشكل، يمكن الاستنتاج بأنّ نحو نصف الودائع جرى تذويبها منذ ذلك الوقت، عبر عمليّات بيع الشيكات وسداد القروض، أو السحوبات المتدرّجة بالليرة والدولار. والغالبيّة الساحقة من هذه العمليّات، حمّلت أصحاب الودائع أشكالًا مختلفة من الخسائر، جرّاء استعمال الودائع بأقل من قيمتها الفعليّة. وفي الوقت نفسه، من المهم الإشارة إلى أنّ جزءًا أساسيًا من انخفاض قيمة الودائع يرتبط بتراجع سعر الصرف، وتدهور القيمة الفعليّة للودائع بالليرة اللبنانيّة، وهو ما يمثّل جانبًا آخر من الخسائر التي تحمّلها المودعون.
أخيرًا، ولتوضيح حجم المأزق المصرفي الراهن، يجب الإشارة إلى أن حجم توظيفات المصارف لدى المصرف المركزي ما يزال عند مستوى يقارب الـ 80.64 مليار دولار، وهو ما يشكّل وحده نحو 91.23% من القيمة الإجماليّة للودائع الموجودة في القطاع المصرفي. وضخامة هذا الرقم، قياسًا بمحدوديّة حجم الاحتياطات المتبقة في مصرف لبنان، هو ما يمثّل اليوم أساس أزمة السيولة في القطاع. أمّا توظيفات المصارف في سندات الدين السيادي بالعملات الأجنبيّة (اليوروبوندز)، التي تستحق مباشرة على الحكومة اللبنانيّة، فلم يتخطّى اليوم الـ 2.31 مليار دولار أميركي، بعدما باعت المصارف تدريجيًا –خلال السنوات الماضية- الغالبيّة الساحقة من حيازاتها من سندات اليوروبوندز.
في خلاصة الأمر، وبمراجعة أرقام السنوات الماضية، يمكن بسهولة ملاحظة الفارق الواسع –والآخذ بالاتساع- ما بين سيولة القطاع المتبقية وحجم التزاماته، وهو ما يعني تلقائيًا تزايد حجم الخسائر التي ستلحق بالمودعين بعد إعادة الهيكلة. وعدم بدء هذا المسار خلال العام 2025، سيعني تحميل المودعين المزيد من الخسائر في المستقبل، تمامًا كما جرى خلال السنوات الماضية.