سيبقى عدوان إسرئيل في سنة 2024 في ذاكرة التاريخ كواحد من أعتى أنواع الحروب التي شنت على لبنان، وقد لا تمحى بسهولة أثار الندوب التي خلفها، وخصوصا في المواقع التي إستهدفت لرمزيتها، كما هو الحال في مدينة بعلبك، التي أصاب ألمها صميم كل لبناني.
طويت سنة 2024 في بعلبك ومحافظتها، على محاولة للملمة جراح أهلها مع ركام عدد كبير من البيوت والمؤسسات التي سويت على الأرض، لتمحى تحت بعضها قيود عائلات فقدت معظم أفرادها.بعلبك تتنفس الصعداءقلبت الحرب الأخيرة على لبنان، المشهد العام في مدينة الشمس رأساً على عقب. فقبل أشهر فقط من توسع العدوان الإسرائيلي على المدن والقرى البعيدة عن خطوط المواجهة المباشرة في الجنوب، عبّرت بعلبك، عن ثقافة حياة مختلفة تماماً عن الصورة النمطية التي ترسّخت حولها منذ عدوان تموز 2006. وكانت "المدن" زارت بعلبك في شهر نيسان، لتعود اليها مرات إبان استهدافها مباشرة بالغارات، ومن ثم تعيد الكرة بعد إنتهاء الحرب. فعاينت ميدانياً التقلب الجذري السريع في مشهدية المدينة وواقعها المعاش، وبأقل من نصف سنة.كانت بعلبك قد بدأت في شهر نيسان تتنفس الصعداء. إنتعشت في وقت مستقطع إنتزعته بعد جائحة كورونا، إثر تكثف الجهود الأمنية للحد من نفوذ العصابات وارتكابات طفارها الذين احتموا في بعض بيئاتها. وقد شكل إستتباب الأمن المحلي عاملاً أساسياً في إنتعاش حركتها السياحية المحلية، ما انعكس على إقتصاد المدينة، وخصوصاً بظل تدهور قيمة العملة المحلية الذي شجع اللبنانيين على السياحة الداخلية.شكّلت الوجهة الى مرجة رأس العين مرآة عكست الإنتعاش الإستثنائي لبعلبك خلال هذه المرحلة. وعلى رغم أربع غارات تعرض لها محيطها، لم تتأثر حركتها السياحية سلباً. بل وجهت بعلبك من مرجة رأس العين رسالة فرح، وزاد من صخبها، تشجيع أهالي القرى والمدن الذين إستمروا بالتوافد الى مطاعم بعلبك ومقاهيها، ليعوضوا على مؤسساتها الخسائر التي منيت بها جراء هروب السواح الأجانب الذين بدت مدينة الشمس وأعمدتها التراثية وجهة غير آمنة بالنسبة لهم في زمن العدوان.خلال توسع العدوانحتى ذلك التاريخ لم تكن المحافظة قد شهدت سوى أربع غارات استهدفت مراكز حدودية وأخرى حددتها إسرائيل كأهداف عسكرية، ومع أنها لم تشكل عامل خوف لأبناء المحافظة، فقد حاصرتهم في بيئتهم. فنجحت إسرائيل بغاراتها المتقطعة على المنطقة، بأن ترسم خطوط الخطر التي أمعنت في فصل بعلبك عن محيطها وعزلتها عنه.على هذه الحال استمرت بعلبك وجهة استقبلت جوارها الشيعي فقط. إلا أن العناد الذي أظهره أبناء المدينة خصوصاً في تحدي الظروف التي لطالما عاكست هوية المدينة السياحية، إنكسر أمام رسائل التهديد والإنذار المباشرة التي وجهت الى أهلها إثر توسع العدوان الى بعلبك وضاحية بيروت الجنوبية. لينقلب المشهد في أقل من خمسة أشهر 180 درجة. وتتحول بعلبك من مدينة تضج بالحياة، الى مدينة هجرها ثمانون بالمئة من أهلها. فنجحت إسرائيل في إسكات أصوات الضحك ولهو الأطفال التي كانت تصدح قبل فترة قصيرة من مرجة رأس العين. هذه المرجة التي إستهدف محيطها بغارات إسرائيلية سوّت بعض مؤسساتها السياحية على الأرض أيضاً، من دون أن تفهم ذرائع إسرائيل الحقيقية قبل أن تأتيهم الصفعة في مكان آخر، وكانت هذه المرة أشد إيلاماً من الصفعة الأولى.سيظل الكثيرون يذكرون مع الإنذارات المباشرة التي وجهتها إسرائيل الى بعلبك، ذلك الإتصال الذي تلقاه المدير الإقليمي للدفاع المدني في المدينة بلال رعد. الرجل الذي ساوم قبل أيام متصل من قبل العدو لكسب مزيد من الوقت من أجل تأمين إجلاء أهل المدينة قبل تنفيذ مضامين الإنذارات الموجهة إليهم، قضى مع معظم طاقم مركزه بغارة إسرائيلية سوّت المبنى بالأرض. قبل ذلك بأيام كان رعد وفريقه يتنقلون بين غارة وأخرى لإنتشال جثث الضحايا وإنقاذ المواطنين العالقين تحت أسقف بيوتهم. ثم سقط في واحدة من أفظع الجرائم الإنسانية التي يمكن أن ترتكب بحق الأطقم العاملة في الخدمة الإنسانية. وهذه كانت واحدة من أقسى الصفعات التي تلقتها بعلبك وتألم لها اللبنانيون عموماً.الغارة على منشية بعلبكمن بين الإستهدافات تذكر تلك التي تعرضت لها "منشية بعلبك" التي شكلت علامة فارقة في عدوان 2024، ربما لن تزول ندوبها قبل أن تكبر الأجيال التي لم تترسخ المنشية في ذاكرتها البصرية على الأقل. لم تكن فظاعة الجريمة هذه المرة بعدد الضحايا المدنيين الذين حصدتهم، وإنما بنجاح إسرائيل في محي آثار معلم تراثي، هو واحد من أبرز معالم بعلبك المجاورة لأعمدتها التاريخية.ما استهدف هنا هو جزء من ذاكرة الصورة الحضارية التي إجتهدت المدينة لإبرازها برغم كل الظروف التي عاندتها. وكانت تداعيات هذا العدوان مؤلمة أيضاً على معظم محيطها التراثي، ولا سيما بالنسبة لفندق بالميرا المواجه لها مباشرة. هذا الفندق الذي يختزن قصص بعلبك الجميلة في زمن التنوع الذي أنعش سياحتها بالرواد من مختلف المناطق اللبنانية ودول العالم، يحفظ أيضاً هوية مدينة تبدلت بين زمنين.ولم تكن الغارة التي جعلت حجارة المنشية تتطاير حتى أعمدة بعلبك وحدها ما حمل الخطر على هذه القلعة. بل تعرضت المدينة لاستهدافات متكررة على جوارها، عززت المخاوف من نوايا اسرائيل في استهداف تاريخ المدينة وتراثها. وهذا ما أيقظ الرأي العام اللبناني عموماً على سقطة وزير الثقافة محمد مرتضى الذي أزال في بداية العدوان الإسرائيلي "درع الحماية الأزرق" عن قلعة بعلبك، مسقطاً قناعاته الشخصية ومقدما لها على الإجراءات التلقائية التي يجب اللجوء اليها في حالة أي خطر على المعالم التراثية. تيقظ الوزير بعد أسابيع من توسع العدوان باتجاه بعلبك، بأن "قوة المقاومة" لا تشكل رادعاً لإجرام إسرائيل الذي طال البشر والحجر، وعاد ليبذل الجهود في مطالبة منظّمة اليونيسكو بمنح الحماية المعزّزة ضدّ العدوان الإسرائيلي لأربعة وثلاثين موقعاً أثريّاً لبنانيّا.حسن الجوار وسقوط النظاممفارقات كثيرة سجلت في هذه الفترة ربما تكون قد أحبطت مساعي إسرائيل لإيلام أبناء المنطقة بشدة أكبر. وتجلت بحسن الجوار بين أبناء قرى هذا الجزء من البقاع مجدداً، بعدما كان قد حجب جراء الإنقسام السياسي العامودي بين 14 و8 آذار. فعرسال المتهمة بالإرهاب صارت حضناً آمنا لمن خونوها سابقاً. وكان لاستضافة أهالي هذه البلدة للنازحين من القرى البقاعية المصنفة حمراء، رمزية تتخطى المحاذير السياسية، خصوصا بعد وصم أهالي هذه البلدة وتنميطهم بالإرهاب، لكونهم شرعوا الأبواب أيضاً في مبادرة حسن جوار، لأبناء القرى الحدودية السورية التي نزحت لأحضانهم، وتغلغل معهم الإرهابيون، ورطوا المنطقة بمعارك مع الجيش اللبناني.لكن على رغم الدور الذي لعبته عرسال في إيواء ما لا يقل عن 25 ألف نازح، فإن الأضواء وجهت بشكل خاص الى دير الأحمر. فهذه البلدة كانت من أول من فتح ذراعيه لإستقبال خصومها في السياسة وتأمين الحماية التي وجدوها في حضنها، وبرعاية من حزب القوات اللبنانية، التي سهلت فتح المنازل والمؤسسات والمدارس لرعايا الغرماء في السياسة.حسن الجوار الذي ترجم من القرى التي تضم الأقليات الطائفية في المحافظة، أيقظ المودة التي لطالما ميزت أبناء قرى الأطراف في مختلف أنحاء لبنان. فاستعاد الضيوف والمضيفين طينتهم الاجتماعية ليغلبوها على الخلافات السياسية.انتهى العام 2024 بتبدل سريع إثر سقوط النظام في سوريا. ولا بد أن يحمل معه تغيرات جذرية ربما تنعكس بشكل مباشر على قرى البقاع، ولا سيما منطقة رأس بعلبك والهرمل المحاذية للحدود. التغيير مرتبط بالإجراءات الحدودية التي ستتخذها السلطة السياسية الجديدة بسوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد. وربما يكون هذا التغيير بداية مرحلة جديدة، إما تعود من خلالها محافظة بعلبك الى زمن الهدوء والانكفاء نحو الشؤون الداخلية، أو تتورط في مشاكل إضافية مع امتدادها الجغرافي الى سوريا. وهذا ما سيحدد في المرحلة المقبلة ما إذا كانت بعلبك ستستعيد شمسها المشعة على كل لبنان، أم تغرق في عتمة التوترات المستمرة وتداعياتها.