يُذَكِّرُ كتاب "الخواجاية" الصادر حديثًا عن دار الشروق بالقاهرة لفيموني عكاشة بفيلم "الشريط الأبيض" للنمساوي ميشيل هانيكي، وكتاب "المولودة" للمصرية نادية كامل. وعلى الرغم من تباين النصوص الثلاثة في الرؤى والأهداف والأدوات، فإن "الخواجاية" يشكل مع فيلم هانيكي سردية واضحة للكيفية التي صنعت بها أوروبا "هتلر"، ويحكي مثل "المولودة" عن مصر لم تعد موجودة، وذهب تقريبًا غالبية من عاصروها.لست في صدد المقارنة بين نص فيموني وأي من العملين الآخرين، مثلما فعل الكاتب المؤثر محمد المخزنجي، الذي قارن بينه وبين "لم أخرج من ليلي" لآني أرنو، بل ورجَّحه عليه. وإن حمَّل بذلك الكتاب الأول لفيموني ما لا يقدر عليه في مواجهة أديبة نوبلية، وتستطيع على الأقل ابتكار أكثر من لغة تميز أبطالها كل على حدة، وهو ما يفتقر إليه "الخواجاية" الذي احتوى على صوتين لم يميز بينهما غير اختلاف الخط، الذي لولاه لوجد القارئ صعوبة في إسناد الكلام لقائله وتاه بين البطلتين في أكثر من موضع داخل الكتاب.ولكنني أسعى، عبر هذه الاستعانة بنصي هانيكي وكامل، لصياغة مقدمة تتوخى الوقوع في غرام "جيردا" "الخواجاية"، البديعة، ذات الذاكرة المدهشة، التي ربما تغني شخصيتها قارئ الكتاب عما احتوى عليه من شهادة ثمينة عن دولة أوروبية خاضت، مكرهة، الحرب العالمية الثانية، وأخرى عربية خرجت لتوها من حكم ملكي إلى حروب متتالية لإثبات استقلاليتها وبناء واقعها الجديد؛ مثلما استولت على الابنة وشغلتها مثلًا عن التوقف أمام عائلة أبيها بما يستحق مقام كل واحد منهم، فأبوها أنور عبد الله عكاشة كان مديرًا ومؤسسًا لمصنع الكساء الشعبي الذي أنشأه عبد الناصر في مدينة المحلة، وجدّها المباشر هو عبد الله عكاشة، مؤسس ومدير فرقة عكاشة المسرحية التي كانت من رواد المسرحين المصري والعربي، وجدّتها المباشرة بالضرورة هي زوجته فيكتوريا موسى التي كانت واحدة من أوائل النساء اللائي وقفن على خشبة المسرح ومهدن لأقرانهن الطريق لاحقًا.هولندا هتلريحكي الكتاب قصة سيدة هولندية عاشت ربع عمرها في موطنها الأم، وثلاثة أرباعه بعيدة عنه في مصر خلال الستينيات من القرن الماضي وحتى عام 2019، ومحاولة ابنتها (المؤلفة) توثيق تلك الرحلة الطويلة بعد أصابة أمها بداء الخرف الذي أتى على ذاكرتها.ولعل ما يدهش في تفاصيل تلك الشهادات أنها تصنع من خلال تفاصيل معيشية بسيطة سردية لواقع عايشته هولندا التي انكوت بنيران الحرب العالمية الثانية. فعندما يتصدى عمل ما للتأريخ للحرب، أية حرب، فإن اهتمامه ينصرف إلى رصد المآسي الإنسانية الفادحة في صور التعذيب والقتل والإفساد الذي يصنعه الجنود المتحاربون. لكن "جيردا" التي تستعيد ذكريات المأساة في شيخوختها، تتوقف مثلًا أمام تحول البلد الأوروبي إلى نظام المقايضة، ليس بداعي الافتقار إلى العملة، وإنما لأن الأخيرة لم تعد لها حاجة في غياب ضرورات الحياة الأساسية، بداية من الغذاء وحتى أقل الأدوات ترفًا.
"لم تكن للنقود قيمة كبيرة أثناء الحرب، كانت هناك أشياء كثيرة لها قيمة أكبر، فمثلًا خبأ والدي راديو صغيرًا؛ لأن الألمان استولوا على جميع أجهزة الراديو في البلدة، وكان يحاول أن يسمع الأخبار من فرنسا أو إنكلترا ليعرف حقيقة ما يحدث. كان الحصول على أي خبر غير ما يقوله المحتلون أمرًا بالغ الصعوبة! لا يمكن أن تتخيلي الأمر، كنا مسجونين داخل بلادنا! كانت لدى شعبنا مشكلة أخرى، وهي أن الألمان كثيرًا ما كانوا يستولون على دراجاته، ومن حسن الحظ أن أبي استطاع الحفاظ على دراجة قديمة متهالكة تقطَّع إطارها، ولم تتوفر بالطبع أي قطع غيار آنذاك. كان عليَّ الذهاب بهذه الدراجة لمسافة حوالي عشرين كيلومترًا لأحضر ما قايضه أبي من المزارع في (مدينة) كامبن".كانت "جيردا" تخوض تلك الرحلة الشاقة التي تبلغ عشرين كيلومترًا بواسطة دراجة من دون إطارات فقط لتجلب الجبن من ذلك المزارع. وهو العوز الذي يفسره مشهد آخر تستعيده "الخواجاية" بعد هزيمة النازي، حين "كان أفراد الجيش الكندي أول من دخل بلدتنا زوولة. اصطف حينها الأهالي على جانبي الشارع مهللين لهم ولحريتهم، والجنود يرمون بالسجائر والحلوى وقطع الشوكولاتة وهدايا كالأقلام والأعلام. كانت أشياء بسيطة، ولكننا لم نرها منذ سنوات (...) واستطاعت أمي وأختاي شراء أشياء لم تكن متاحة من قبل مثل الجوارب النسائية الشفافة ومشدات الصدر".
من جهة أخرى، تتوقف البطلة في شهادتها عند ما يمكن عدّه إرث التعصب الذي أفرز لاحقًا هتلر وموسوليني، وإن كان بالطبع لا يبرر لهما ما فعلاه بأوروبا والعالم. مثلًا، تحكي "جيردا" لابنتها: "ما عشته في هولندا، كان ذلك الصراع الخفي والكره المستتر بين الطائفتين: البروتستانتية والكاثوليكية، والذي ترجع أصوله للقرون الوسطى، عندما اعتنق الكثير من الهولنديين المذهب البروتستانتي بعد أن تأثروا بالتعاليم اللوثرية، وحرق البروتستانت آنذاك الرسومات التي كانت تضج بها الكنائس الكاثوليكية، واضطهدوا الكثيرين منهم، وتراجع معظمهم إلى مدن جنوب هولندا. وعندما صار المذهب البروتستانتي الدين الرسمي للدولة، ظل هناك فصل واضح في المجتمع بين الطوائف الدينية والمعتقدات السياسية المرتبطة بها، حتى إن كان لكل طائفة مدارسها وصحافتها وأحزابها السياسية".مصر عبد الناصرحين تذهب "جيردا" بابنها البكري عبد الله إلى هولندا لأول مرة بعد زواجها كي تزور أسرتها، فإن الطفل الذي ما يكاد يتكلم ينتبه إلى دوي سيارة مسرعة، فيتساءل: "عبد الناصر جاي هنا؟" فلم يسمع صفارة عربات الإسعاف "من قبل هكذا في شوارع القاهرة إلا من عربات الشرطة التي تصطحب السيد الرئيس".ورغم ما ترمز إليه تلك الذكرى العابرة في أذن طفل من سردية موحية عن دولة بوليسية، فإن الكتاب يكاد يخلو من أي ذكر لذلك الحال إلا من إشارات بسيطة وضرورية. فربما يكون موقع الأسرة العريق، وانشغالها بالعمل الاجتماعي، قد أبعداها عن السياسة ومآسيها، لكنه في الوقت نفسه قربها من واقع مجتمعي ربما يكون أكثر أهمية لقلة الإشارة إليه في الأدبيات التي تناولت تلك الفترة.فوظيفة الأب كمهندس نسيج جعلته على رأس المجتمع العمالي الذي شيده النظام الناصري في مدينة المحلة، والذي يبدو في مرآة اليوم خيالًا يصعب استيعابه.ترصد عين الطفلة "فيموني" مثلًا أن بيوت العمال في مستعمرة المحلة، كانت "من طابق واحد تضم غرفتين أو ثلاثًا ولها حديقة خلفية لتربية الورود والخضراوات، والبعض يربي الدواجن. حتى أواخر الستينيات، أقامت الشركة مسابقات سنوية لأجمل حديقة وأجمل ورود".وأما بيتهم الذي سكنوه في وسط بيوت العمال، ولم يُؤسس في الأصل بيتًا للمدراء، فكان: "بيتًا كبيرًا، له باب أخضر ضخم يؤدي من خلال ممر واسع إلى غرفة صالون على الشمال، لها أبواب زجاجية لا تستطيع رؤية من في داخلها، نسميها "الغرفة الشتوية" (...) وتفضي نهاية الممر إلى صالة واسعة، كانت هي المكان الذي نجلس فيه دائمًا ونستقبل فيه الأصدقاء. ثم حجرة سفرة لها أيضًا باب زجاجي كبير يؤدي إلى تراس يطل على الحديقة الخلفية. وعلى يمين الممر الرئيسي من عند المدخل، ممر آخر صغير يؤدي إلى أوفيس صغير، به حوض كبير آخر تستخدمه "فاطمة"، مساعدة أمي التي عملت معها لسنوات بعد "هنية"، ثم المطبخ الكبير الذي يطل على الحديقة الأمامية وله مدخل مستقل يأتي البائعون إليه. ومن المطبخ يوجد سلم مشترك بين بيتنا وبيت الدكتور "فوزي السيد" (طبيب المستعمرة) (...) أدى هذا السلم الذي يربط البيتين إلى السطح، حيث كانت توجد غرفتان ومساحة كبيرة مفتوحة. ربما كان أبي هو من قرر أن يربي الطيور والدواجن، ولكن أمي هي من اعتنت بها. تم تخصيص غرفة للحمام وأخرى للأرانب، وبُنيت على السطح عشة كبيرة للدجاج والبط والديك الرومي (...) أما الدور الأعلى للمنزل الذي يؤدي إليه السلم الرخامي الأبيض العريض، فكان يضم حجرات النوم: واحدة لوالدي، وحجرتي أمامها، وبينهما حمام نشترك في استخدامه. وعلى الناحية الأخرى، حجرة "كمال" أو الضيوف إن حضر أحد للإقامة معنا، ولها حمام خاص بها وشرفتان كبيرتان. ومن الممر الطويل في نهاية السلم الرخامي، توجد غرفة "عبد الله" الصغيرة المطلة على الحديقة الأمامية".ولعل هذا الاقتباس الطويل من الكتاب يطرح سؤالًا بالغ الأهمية عن الوعي الذي خلق هذا المجتمع وعن الوعي الذي دمره. هل كانت النخبة الملكية هي التي أوجدت ذلك النسق الحضاري لدى حكومة الثورة؟ أم أن تلك النخبة هي من جعلت التنمية وقفًا على الطبقة الوسطى وحرمت ما دونها، فلما ارتقت الأخيرة السلمين الاجتماعي والسياسي، لم تجد ما تغرسه للمستقبل؟ربما يثير الكتاب في مادته ذلك السؤال عن أثر الطبقة الوسطى ونخبتها على الدولة سلبًا وإيجابًا، ليس فقط في عصر ناصر وما تلاه وصولًا إلى اليوم، ولكن في تفاعل "فيموني" نفسها مع مصريتها أو مع "المصريين الآخرين".لا تفتأ "فيموني" تترك فرصة في الكتاب لتؤكد حبها واعتزازها بمصر، ولكن دون تعريف واضح لتلك "المصرية". وعندما تسنح لها الفرصة مرتين لبيان ذلك المعنى، وفق مفهومها. فإنها تقول مرة عن أخيها إنه: "كان أكثرنا "مصرية" في التماس مع التقاليد والعادات التي كنت أراها مجحفة بالفتيات"، وأخرى عن أمها حين تقول: "لم أرَ أمي تبكي بحرقة قط أو تلطم أو تصرخ مثل السيدات المصريات". ولا أجد الكاتبة بريئة في هذين الموضعين من الكتاب، حين أقارنه بموقفها من كل تصرف مستهجن أو نشاز يقوم به الآخر الهولندي. فحتى وإن رفضته في البداية كـ"طفلة"، فإنها تتبعه بتفسير "حضاري".فالهولنديون، مثلًا، ليسوا بخلاء أو لئاماً في صلفهم مع الضيوف، بل هم حريصون بسبب ما عاشوه في الحرب، في مقابل بذخ وإهلاك غير مبرر للمصريين. أما في مصر، فيعني الحداد اللطم وشق الملابس، وتعني "العادات" إجحاف المرأة، ولا تعني مثلًا أن هناك ميراثًا من الحزن يتصل بمصر القديمة حتى المعاصرة، ويتبدى في آلاف الآثار والإشارات التاريخية. أو أن مثلًا أباها المنفتح الذي يحترم المرأة هو "أقل مصرية" من أخيها.بكل تأكيد، تواضع المجتمع المصري على إجحاف المرأة منذ عقود، ولكن هل تُختصر "العادات" المصرية في إجحافها حقوقها؟كتاب "الخواجاية" في أصله هو أحد عادات الحداد المصرية القديمة، التي تستدعي المباهج عبر الحزن. ورغم ذلك، لا تتحمل "فيموني" ذنب هذا التصور وحدها. فهي، وإن أفصحت عنه بتلقائية، تعبر عن تصور ورؤية تتعايش بها الطبقة الوسطى المعاصرة مع "المجتمع المصري الآخر"، وهو تصور يحتاج ربما إلى رؤية أعمق من تعليق قصير، تتصدى لتفسيرها بصورة أفضل من ابتذالها في لفظي التفريق الفجين "مصر" و"إيجيبت".
ذات مرة وقع لجيردا وأبنائها حادث سيارة، ففسرته -مثل أي امرأة بسيطة تعتد بما هو غيبي- بأنه نتيجة لعدم تلاوتهم الفاتحة قبل انطلاق الرحلة ولتفويتهم صلاة الجمعة.
لم تكن "جيردا" "خواجاية"، كما وصفها -في سطحية- المحيطون بها، وربما تكون الإشارة الأخيرة لتصور الكاتبة عن "المصرية" سلوكًا مشابهًا. لكن يظل الكتاب رغم ذلك وثيقة مهمة "استدعت من خلال أحزان تيه الوعي الذي نُكبت به هذه الأم "الخواجاية" حضور المباهج زمنًا وناسًا وبيئة مضت كلها: مصر أخرى، بالمقارنة: بديعة، ووديعة، ومتحابة التشكيل والتكوين". كما وصفه محمد المخزنجي هذه المرة من دون مبالغة.