السنة الخامسة... وأمي مكللة بالوجود، بصمتها تحفر في أيامي ولحظات الحظور، وعطرها لا يتلاشى مع الريح ويزرع في الأمكنة، وحرارة الشمس وحبات المطر تتسابق لتلملم بقايا عطرها...إنها أمي يا امي!
عطر أمي يشبه الولاده ورائحة الأرض حينما يسقط المطر لأول مرة على جفاف وقع ما بعد الصيف، وأناقتها تخيم على كل حركة وقت وزمان الصورة، وابتساماتها تتوزع دون كلل وتعب...
و...وأمي وجيهة حوماني "إم رشيد" لم تعد من الموت ولم نستقبلها في الدنيا، وليست مسافرة، بل هي بعد الموت أكثر فينا وبيننا وحولنا وفي كل زوايانا، تعلم ما يصيبنا، وتزورنا في الأحلام ومرسمها أمامنا دون إزعاج...
وأمي الخياطة حاضرة، وفراقها لا يعرف غير اللقاء اليومي، في كل حركة ونشاط وجلسة وترانيم الضحكة تتربع فيها وفينا، وفي كل قصيدة جملة وأغنية منحوتة في الكلمة، ومع كل فاكهة هي الفاكهة...
وأمي الصابرة تسكن اللحظة، تعيش بيننا وأمام ناظري، في الرحيل هي أكثر اقتراباً وحضوراً وكلاماً ونظراتها ثاقبة لا تغيب، وفي الحضور هي راحلة في الراحة ولكنه داخل انفاسنا...
رحيل أمي في هذه الظروف التي نعيشها اليوم رحمة لها، ظروف الحرب والخيانة والموت الهدف الموجع رحمة لكونها لا تريد أن تشغلنا بها...
يا أمي، في رحيلك الخامس وقعت المصيبة الكبرى، ومن كنت تسبحين كي يعيش بيننا، ويستمر بقيادة الشرف أصبح شهيداً، ارتفع إلى جوار الرحمن، تركنا السيد يا أمي كما تركتينا، تركنا والبلاد تشتعل، وأبناء الخال والعم وأهل الدين يغدرون بنا، يشمتون بحجارة منازلنا التي تهدمت من جراء همجية الصهاينة كي نحمي منازلهم!
رحيلك دون مشاهدة هذه الأيام الصعبة رحمة لك ولنا...
رحيلك والشجر يدمع، والسماء ثائرة على غدر الزمان، والطيور خائفة من قتلها، وكل الامكنة تائهة خارج الكون بسبب وحشية الشيطان الصهيوني وخيانات العربان وجحشنة من يدعي الإسلام...
وكل هذا الدمار الموجع من صمت النظر لن تتحملينه، ولو كنت بيننا لكان الألم مضاعفاً، ودموعك ستنهار جمراً، وانفاسك كالسكاكين غدراً، وحنجرتك تصرخ في داخلها، والصدى براء منا...
يا أمي...تشتت العائلات، وغابت الشمس عن موعدها، واختفى صياح الديك، ووقمنا بخيانة الفجر، وأجرنا الصباح، والكل هرول إلى مجهول ومساحات ومسافات متباعدة، والنغم سرق صوته، وأصبح يعيش من دون الوتر...
يا أمي الربيع انكسر بعد استشهاد شبابه، والرزق قطعه المفلس وطنياً وانسانياً ووطنياً...
يا أمي في السنة الخامسة من موعد الرحيل حيث سنة تسلم سنة، وحيث السيد سلم السيد، والسيد سلم الشيخ، وحيث الأمكنة لم تعد تشبهنا، وبُعد المسافات عن أرواحنا بصمة عيشنا، والنظرات رغم كثرة ثرثرتها داخل قلقها صامتة لا تعرف غير الشكوى، والشكوى لغير الله هزيمة!
أمي وجية حوماني يا لك من قاسية، طال غيابك ونحن زدنا يتماً، وفي رحيلك أيتها البركة تغير الكون، والحروب أصبحت أكثر شراسة، وحربنا التي أصابتنا بالصميم يعجز اللسان عن وصفها، وأخذت منا الذي كنتِ تحملين صورته بصلاتك، أخذت سيد العشق وحبيب الحق وعنفوان الكرامات، أخذت السيد حسن نصرالله...!
ربما رحيك يا أمي كان لصالحك حتى لا تتعبين ولا تتعذبين ولا تتهجرين أو تصرين البقاء على أرض جبل عامل، ولا تدمعين ولا تنظرين والدمع يجرح العيون!
في غيابك اختلفت الحدود وجغرافيا العرب والقلوب، وتكالبوا على بعضهم حتى الاغتيال والانقراض!
نعم...الموت رحمة من هذا الزمن الضعيف إنسانياً، والكافر دينياً رغم ادعياء المرحلة يقولون:" الله أكبر"، ولكن ما يوجعنا هو الفراق، وفراقك يا أمي هو عمق الوجع والصبر، وما بعد الصبر يوجع أكثر...