حلّت النكبة على الضاحية الجنوبيّة في العام 2024. غابت زينة الأعياد عن شوارعها ومناطقها التجارية. ألقت الأزمات بثقلها على الأهالي، الذين استقبلوا الأشهر الأولى من العام 2024 بترقبّ وخوّف من حربٍ إسرائيليّة حولتهم إلى نازحين داخل وطنهم، وودعوا أشهرها الأخيرة برفع الركام عن بيوتهم وممتلكاتهم أو ما بقي منها، بعدما محت الاعتداءات الإسرائيلية مناطق بكاملها وأزالتها عن خريطة الضاحية التي تحولت إلى منطقة منكوبة ومُدمرة ومكان كئيب وثقيل على قلوب العائدين.
عامُ الاغتيالاتاستقبل أهالي المنطقة بداية العام بضربة إسرائيليّة طاولت عمق الضاحية الجنوبيّة، ففي الثاني من كانون الثاني، نفذت إسرائيل أولى عمليات الاغتيال، واستهدفت القيادي في حركة حماس، صالح العاروريّ. حالة من "الذعر" خيمت على الأهالي الذين اعتقدوا أن الضاحية عصية على الاختراق.
في الثامن والعشرين من شباط، عادت الحوادث الأمنية إلى الضاحية، وألقت عناصر تابعة لحزب الله القبض على مجموعة هولندية مسلحة، تبين من التحقيقات أنها تنقلت داخل شوارع الضاحية بأسلحتها، وجرى التداول آنذاك أن الفرقة كانت تتجهز لتنفيذ عمليات إرهابية ضد حزب الله.
لم يدم الوضع طويلاً حتى عادت ذكريات حرب تموز العام 2006 إلى ذاكرة السكان مرةً أخرى، جراء استهدافٍ إسرائيليّ في تموز العام 2024، لمنطقة حارة حريك، العمق الأمني لحزب الله. أطلقت ثلاثة صواريخٍ من مسيرة على مبنى سكنيّ، واغتيل بنتيجتها قائد حزب الله العسكريّ فؤاد شكر، وهو أحد المتهمين بتنفيذ الهجوم على مقرّ مشاة البحرية الأميركية.النزوح الأضخم منذ العام 2006بعدها، بدأت حركة نزوح خفيفة نحو مناطق أكثر أمنًا خوفًا من التصعيد. وضع حزب الله "خطة الطوارئ" تحسبًا للحرب مع إسرائيل، وقُسمت إلى عدة مراحل، وتضمنت طرق إخلاء الأهالي من المنطقة، ليتم توزيعهم على شقق سكنية في الشمال والبقاع والمناطق الجبلية. أما الخطة "ب"، فتضمنت تجهيز مراكز الإيواء والمدارس بالاحتياجات المطلوبة.
في منتصف شهر آب من العام 2024، نفذت الأجهزة الأمنية خطة أمنية طارئة، وأفرغت كل المساجين من مراكز الاحتجاز في الضاحية الجنوبية ونقلتهم إلى مراكز آمنة ومحيدة عن الضربات الإسرائيليّة. لكن الخطة لم تنفذ وقد خالفت مجريات الأحداث كا التوقعات.
في السابع عشر من أيلول، عاش السكان لحظات قاسية ومرعبة لن يكون سهلاً محوها من ذاكرتهم. آلاف الشبان، سقطوا ضحايا أو جرحى، في الوقت عينه، نتيجة اختراق الموساد الإسرائيليّ حزب الله إلكترونيًا، وتفجير الآلاف من أجهزة الـ"pagers" التي يستخدمها عناصره. وفي اليوم التالي، استكملت إسرائيل عدوانها، وفجرت الأجهزة اللاسلكية التي كانت بحوذة عناصر من حزب الله خلال تشييع في منطقة الغبيري.
وبعد يومين، استهدفت إسرائيل مبنى سكنياً في محيط "جامع القائم" ودمرته بالكامل، ثم أغارت طائراتها على مبنى آخر في عملية واسعة استهدفت قائد فرقة الرضوان، إبراهيم عقيل، و10 آخرين من الفرقة، خلال اجتماع لهم في الطوابق السفلية للمبنى.تبدلت ملامح المنطقة بعد هذين الحادثين، وبدأ السكان إخلاء منازلهم ونزحوا نحو مدينة بيروت.
في السابع والعشرين من أيلول، كانت الضاحية على موعد مع زلزال هو الأعنف والأقوى أمنياً وسياسياً، وألقى الطيران الإسرائيليّ 85 صاروخاً خارقاً للتحصينات، بزنة طن من المتفجرات لكل صاروخ، فوق مجمع سكني في منطقة حارة حريك، لتتمكن إسرائيل من اغتيال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرلله الذي كان متواجداً في الطابق 14 تحت الأرض حيث كانت مكاتبه ومرافقية. تمت عملية الاستهداف خلال اجتماع لنصرالله مع عدد من المسؤولين الأمنيين بينهم قيادي في الحرس الثوري الإيراني.
بعدها كرت سبحة الاعتداءات، وتحولت الضاحية الجنوبية لمدينة أشباح، غادرها أهلها، أقفلوا أبواب منازلهم وقصدوا مناطق أكثر أمناُ باعتقادهم. تعرّضت مئات المنازل للسرقة. وظهرت مهنة جديدة إلى الواجهة، مجموعة من الشبان عملت على إفراغ المنازل من محتوياتها، مقابل الحصول على مبالغ مالية مرتفعة.
في تشرين الأول، تردد الأهالي إلى المنطقة التي تتعرض لقصف يوميّ، في محاولة لانقاذ ما أمكن من مقتنياتهم خوفًا من تدمير منازلهم. واقتحمت الصفحة الرسميّة للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي يومياتهم، وأجبروا على مراقبتها بشكل متواصل للاطلاع على الخرائط التي ينشرها قبل وقت قليل من القصف الإسرائيليّ للضاحية الجنوبيّة. أحياء كثيرة تحولت إلى ركام في ضاحية بيروت الجنوبية. الدمار لا يزال شاهداً على هول الاعتداءات الإسرائيلية. مشهد مريب، يفوق ما عايشته الضاحية خلال حرب تموز بمرتين وأكثر، والأبنية التي لم تدمر، تصدعت بالكامل وبعضها لم يعد صالحاُ للسكن. يوم العودةفي شهر تشرين الثاني، استقبلت الضاحية أهاليها، بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله. تجولوا داخلها، تفقدوا منازلهم وبدأوو بترتيبها تمهيدًا للعودة.
في كانون الأول، باشر حزب الله مسح الأضرار ودفع التعويضات للسكان، وشكلت لجنة للكشف والتعويض على الأهالي بدفع مبالغ مالية مقابل الترميم وتصليح الأضرار. أما أولئك الذين دمرت منازلهم، فحددت لهم مبالغ مالية سنوية لحين الإنتهاء من إعادة الإعمار، وتماشيًا مع حركة العودة، ارتفعت الايجارات بشكل خياليّ بسبب جشع بعض أصحاب الشقق السكنية، وتجاوز بدل ايجار المنازل في بعض المناطق الألف دولار أميركي شهرياً.
يودع سكان الضاحية الأيام الأخيرة من هذا العام بغصةٍ كبيرة، بعدما تشتتوا لأكثر من شهرين وأخرجوا من منازلهم على حين غرّة، ودُمرت الضاحية وخسروا منازلهم وفقدوا أرزاقهم. ويستقبلون العام الجديد بحالة من الترقب، فما من رؤية واضحة للمستقبل القريب. وجلّ ما يحتاجونه اليوم، هو القليل من الاطمئنان، لمعرفة إن كان سيعاد إعمار مناطقهم من جديد، لأن مرحلة إعادة الإعمار لا تزال غير واضحة ولم يعلن عن تفاصيلها بعد.