ما زال السوريون تحت وقع اللحظة التاريخية لسقوط نظام الأسد، وهي لحظة يرجح أنها ستظل حاضرة بوهجها ووطأتها لفترة طويلة، تماما كما هي سنوات حكمه القمعية الطويلة التي ستبقى في ذاكرة البلاد لعقود مقبلة.وبينما ينشغل السوريون بأفراح الانعتاق والتحرر واستعادة بلادهم ومعتقليهم، تبرز أسئلة العدالة التي تسيطر على النقاشات العامة متجاوزة القضايا الأخرى، التي ترتبط بمعالم الدولة الجديدة وشكل اليوم التالي والدستور وطبيعة النظام الاقتصادي. الحديث عن العدالة في سوريا لم يعد مجرد شعار ثوري يرفع في المظاهرات أو على اللافتات، بل تحول هاجساً جماعياً وثأراً شخصياً يُربك الجميع، من الناجين الذين فقدوا أحبائهم تحت التعذيب، إلى السياسيين الجدد الذين يواجهون مسؤولية بناء دولة على أنقاض نظام دمر البلاد. ورغم مركزية هذا الملف في وجدان السوريين، إلا أن العالم يبدو وكأنه يتجنبه، أو على الأقل يترك سوريا لتواجهه بمفردها.التصريحات الدبلوماسية الدولية حتى الآن، تمتلئ بالإدانة الصارخة لجرائم النظام السوري البائد، وتفيض بالثناء على الخطوات الأولى للمرحلة الجديدة في سوريا، وتنهمك في المشاريع المقبلة للتنمية وإعادة إعمار البلاد. لكن وسط كل هذا الزخم، يغيب الحديث عن المحاسبة، وبالأخص محاسبة الأسد شخصياً على الجرائم التي ارتكبها خلال سنوات حكمه. لم نشهد حتى الآن زعيماً أو مسؤولاً دولياً يرفع صوته، ليؤكد على ضرورة هذه المحاسبة كركن أساسي في العدالة الانتقالية والمرحلة الحالية والمقبلة. وكأن هذا الملف الشائك قد تم تصنيفه ضمن الشؤون الداخلية لسوريا، بعكس كل محاولات التدخل الجارية، أو ربما وُضع على رف الانتظار في حسابات السياسة الدولية، باعتبار أن موعده لم يأتِ بعد.بطبيعة الحال، تجاهل أو تأجيل المطالبة بالأسد من قبل الهيئات الدولية لا يلغي ضرورة مباشرة المسار القانوني اللازم من قبل الحقوقيين السوريين والدوليين. فقد خلق الأسد قدراً من العذابات لضحاياه يجعلهم يبحثون عنه أينما لجأ واختبأ. ورغم أن فرار الأسد إلى روسيا قد يبدو وكأنه يمنحه الحصانة من المحاكمة، إلا أن هذا ليس دقيقا قانونياً، لاسيما بالنظر إلى طبيعة اللجوء الممنوح على أساس إنساني لا لجوء سياسي، وهذا التفصيل يفتح الباب للتفاوض مع روسيا بشأن مصير الأسد. وهو ما قصده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من طبيعة اللجوء الممنوح، بالإضافة إلى أن ما صدر عن الرئيس بوتين الأسبوع الماضي من تصريحات بلغة تصالحية وانفتاحية مع قادة المرحلة الجديدة في سوريا، يشير إلى أن ورقة الأسد قد تكون قابلة للمساومة مقابل ترتيبات العلاقة الروسية السورية المستقبلية. هذه المساومة قد تشمل ضمان بقاء القواعد الروسية في طرطوس، ما يجعل من مصيره ورقة ضغط سياسية بيد الحكومة السورية.في صفحات التاريخ، نادراً ما صبر مضيفو أسلاف الأسد من الطغاة على وجودهم لفترات طويلة، مثال ذلك مجرم الحرب الليبيري تشارلز تايلور، الذي تنحى عن السلطة ولجأ إلى نيجيريا، حيث حصل على ضمانات بسلامته وحمايته، لكن الضغوط الدولية أجبرت الحكومة النيجيرية لاحقاً على تسليمه للمحاكمة. السيناريو ذاته قد ينطبق على الأسد إذا مورست الضغوط السورية المطلوبة وكذلك الدولية.
أو ربما في سيناريو آخر، إذا شهدت روسيا تحولات سياسية داخلية في السنوات المقبلة، خصوصاً أن عمر الأسد الحالي 59 عاماً، ما يضعه في موقع يتيح له سنوات الطويلة من القلق على مصيره مع كل تغير. وتجربة الديكتاتور التشادي حسين حبري تقدم مثالاً آخر، فبالرغم من فراره بعد الإطاحة به، تغيرت السنغال سياسيًا ودخلت في عهد جديد، سمح بتوجيه اتهامات لحبري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ومحاكمته. هذا السيناريو، وإن بدا مستبعدًا في اللحظة الراهنة، يظل احتمالًا قائمًا في المستقبل القريب أو البعيد، معتمدًا على ديناميكيات السياسة الدولية والتغيرات الداخلية في روسيا. وحتى إذا كانت روسيا قوية بما يكفي لمقاومة الضغوط الدولية الرامية إلى تسليم الأسد، ومستقرة كدولة بما يكفي لتجنب تغييرات سياسية جذرية، فهذا لا يجعلها قادرة على حماية الأسد إلى الأبد. هنا يبرز من التاريخ مصير الجنرال النيكاراغوي أناستاسيو سوموزا إمكانية الوصول إلى الأسد محتملة. فبعد الإطاحة بسوموزا، وصلت إليه يد ضحاياه في نيكارغوا وأمطروه بوابل من الرصاص، ليُقتل في قلب العاصمة التي كان من المفترض أن تضمن أمنه وسلامته.ومهما كانت شواهد التاريخ القريب تمنح بصيص أمل، فإن الحاضر الراهن يضيف معطيات تعزز إمكانية تحقيق العدالة المنشودة. لجوء الأسد إلى روسيا، رغم ما يبدو أنه ملاذ آمن، يفتح فرصة لتحقيق العدالة الانتقالية بأسلوب مختلف قد يضمن محاكمة تاريخية، تتجاوز السيناريوهات السابقة. وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن مسارين رئيسيين لمحاسبته. الأول سياسي، يعتمد على ممارسة الحكومة السورية المؤقتة أو المقبلة أقصى درجات الضغط على الأطراف الإقليمية والدولية، بما في ذلك روسيا، لدفعها إلى تسليم الأسد كجزء من ترتيبات سياسية أو اتفاقيات دولية. أما المسار الثاني، فهو قانوني، من خلال المحكمة الجنائية الدولية، وبالرغم أن سوريا ليست عضوًا في نظامها الأساسي، إلا أن توقيع الأسد عام 2000 يعني قبولًا ضمنيًا بالولاية القضائية للمحكمة. كما أن مبدأ النزوح القسري في نظامها يتيح توسيع اختصاصها، مستندًا إلى الآثار العابرة للحدود للجرائم المرتكبة، وهو ما سبق تطبيقه في قضية الروهينجا في ميانمار. هذا المزيج من المعطيات التاريخية والحالية يضع العدالة في متناول اليد، إن توفرت الإرادة السياسية والدعم الدولي الكافي لتحقيقها.دولياً، تُعيد ضرورة محاكمة الأسد إلى الواجهة نقاشًا ضرورياً طالما هُجِر بسبب اليأس من إمكانية محاسبة الديكتاتوريين والطغاة على جرائمهم. إن بقاء الأسد من دون عقاب لا يمثل مجرد خذلان للضحايا، بل يُعد علامة دامغة على الفشل المزدوج للمجتمع الدولي والهيئات القانونية الدولية. فشلها الأول تمثل في عجزها عن وقف جرائمه أثناء فترة حكمه، وخشية من فشل ثان في عدم قدرتها على إصدار مذكرة توقيف بحقه، أو ملاحقته، أو القبض عليه.سورياً، يستلزم التفكير بسبل العدالة والبحث عن مساراتها الواقعية والصعبة أن يتوازى ذلك مع إعادة بناء المؤسسات القضائية، وإعادة تدريب القضاة والمحامين وضمان امتثالهم للمعايير الدولية لحقوق الانسان، بعد سنوات طويلة من ربط السياسة بالقضاء. كذلك إنشاء نظام عدالة مؤقت من خلال تشكيل لجان الحقيقة والمصالحة، تعنى بتوثيق الجرائم والانتهاكات وشهادات الضحايا والجناة. هذه اللجان توفر فرصة لضحايا النظام لتقديم شهاداتهم، حتى لو تطلب إنشاء آلية العفو المشروط، التي تتيح عفواً محدداً للأفراد الذين يعترفون بجرائمهم والتخفيف من العقاب بشرط التعاون مع العدالة لكشف الحقيقة. وهذا سيخفف العبء الثقيل على النظام القضائي المستقبلي في سوريا.إن البدء بإجراءات ملاحقة الأسد قد يتطلب صبراً مريراً، لكنه يمثل خطوة ضرورية وتعبيراً مكثفاً عن العدالة التي يستحقها السوريون بعد عقود من القمع، والمجازر الجماعية، والسجون ممتدة على خريطة البلاد، وتهجير الملايين، وغرق الآلاف في رحلة الهرب من الموت، ومشاهد إجرامية أخرى، خلقت واقعاً سريالياً يفوق التصور. هذه الجريمة الشاملة قد تستدعي إعادة صياغة للقوانين الدولية وابتكار مسارات جديدة في تحقيق العدالة، كما فعلت ألمانيا مؤخراً من خلال المحاكم الوطنية، للاعتراف بحجم المأساة السورية وطي صفحة الإفلات من العقاب.
يبقى الحلم الأكبر بتحقيق دولة سورية مستقرة مزدهرة حرة ديمقراطية، دولة مواطنة والقانون، هو أفضل رد للانتقام من نظام الأسد وأعوانه وعلى عقود من الاستبداد، لتكتمل الحالة التاريخية التي تفردت بها سوريا الملهمة.