كان لافتاً تلك السلبية التي عمّت تعليقات كثيرة في صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، التي نشرت تصريحات رجل الأعمال السوري، فاروق جود، والذي تحدث لصحيفة "العربي الجديد"، قبل أيام، مُرحّباً بسقوط نظام الأسد بوصفه نهاية لعهد الابتزاز والتضييق، الذي عانى منه قطاع الأعمال السوري على مدار أكثر من 54 عاماً. إذ اتهم المعلّقون عائلة جود، بأنها كانت من أكثر "المدللين" في عهد حكم آل الأسد. وقال بعضهم إن عصر الاحتكار انتهى أيضاً، في إشارة إلى اتهامات لآل جود باحتكارهم استيراد بعض السلع، بالتواطؤ مع نظام الأسد. وضمت التعليقات اتهامات للعائلة بالتهرب الضريبي وطرد العمال من دون مسوّغ.وفاروق جود هو شقيق رجل الأعمال، صبحي جود، والذي توفي عام 2016، في مسقط رأسه، بمدينة اللاذقية. وتتحدر العائلة من برجوازية المدينة السُنيّة. وأسّست مجموعتها الشهيرة "مجموعة جود"، منذ ثلاثينات القرن الماضي، لتعمل في مجال الحديد والأخشاب والصناعات المنزلية والغذائية. قبل أن ينقل الراحل صبحي جود، العائلة، تصاعدياً، لتصبح امبراطورية تجارية وصناعية جعلته يُوصف بأنه أحد أثرى أثرياء البلاد، حين وفاته.
وتشكّل هذه العائلة، نموذجاً للعائلات البرجوازية، التي تكيّفت مع حكم آل الأسد، فتضررت سمعتها، وتشوهت أدوارها، لتتحول من برجوازية وطنية لعبت دوراً حاسماً في تأسيس الجمهورية السورية الأولى، وتوحيد البلاد ونيل الاستقلال من الانتداب الفرنسي، ومن ثم الصعود بالاقتصاد بقفزات نوعية خلال خمسينات القرن الماضي، لتصبح في ظل حكم آل الأسد، برجوازية "كومبرادورية" -متحالفة بشكل وثيق مع بيروقراطية السلطة وفسادها- لتكون شريكاً للنظام في الانحدار الاقتصادي الذي عاشته البلاد في نصف القرن الفائت.لكن ما قد يشفع لآل جود، تحديداً، ومثلهم كُثر من العائلات البرجوازية العريقة، أنهم اتخذوا موقفاً أميل إلى المنتفضين ضد النظام عام 2011، حتى لو لم يكن ذلك بصورة علنية مباشرة. وقد نالت العائلة نصيبها من هجمات النظام الإعلامية، ومحاولات النيل من استثماراتهم في البلاد، بعد ذلك التاريخ. لهذا من المفهوم، لماذا يُبدي كُثر من البرجوازيين السوريين، أمثال فاروق جود، بهجتهم بسقوط نظام الأسد. خصوصاً في ظل حديث الإدارة السورية الجديدة عن مستقبل موسوم باقتصاد حر تنافسي، وبتدخل محدود للدولة في الاقتصاد. لكن يبقى ذلك وقفاً على نوعية الحياة السياسية التي ستعرفها سوريا، في المقبل من الأيام. وهو ما سينعكس على دور البرجوازية السورية، بين احتمالين. إما أن ترجع إلى عصرها الذهبي، فتلعب دورها مجدداً في النهوض بسوريا، كما فعلت بعيد الاستقلال. أو أن ترجع إلى حالة التحالف الارتزاقي مع السلطة الجديدة، فتخسر مجدداً دورها الوطني المأمول.وللمفارقة، أن مجلة "قلمون" نشرت قبل شهرين فقط، دراسة للوزير السابق والأكاديمي المتخصص في الاقتصاد، حسين القاضي، ناقش فيها دور البرجوازية الوطنية السورية في الماضي والحاضر (كان حكم الأسد ما يزال قائماً)، وفي المستقبل. وتضمنت الدراسة استبياناً وُزّع على 40 خبيراً سورياً، 97.5% منهم يحملون شهادات جامعية أو ماجستير أو دكتوراه، و90% منهم عمره 50 عاماً أو أكثر، وقد صوّت 58.5% منهم على أن البرجوازية الوطنية السورية شيّدت صناعة متقدمة بعيد الاستقلال، ووافق 50% منهم أن ذلك ترافق مع نظام حكم ديمقراطي، ووافق 60% منهم على ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي في مرحلة ما بعد الاستقلال، ووافق 70% منهم على أن تراجع البرجوازية الوطنية في سوريا يعود إلى الفساد وتبني النهج الاشتراكي. ورأى 55% منهم أن تطبيق القرار الدولي 2254، فيه أمل بعودة البرجوازية الوطنية في سوريا، لتلعب دورها التاريخي المأمول.وتوضح الدراسة أن قدرة البرجوازية على الفعل الإيجابي في سوريا، ترتبط ببناء دولة تحترم قواعد السوق، تحت مظلة الحرية الاقتصادية والسياسية. وهي الأجواء الذي أتاحت لهذه البرجوازية أن تلعب أدوراً نوعية بعيد الاستقلال. ووفق أرقام للبنك الدولي، كانت معدلات النمو الاقتصادي في سوريا بعد الاستقلال مرتفعة بشكل ملحوظ، (بين 5 و7%)، مع عدم وجود تضخم في تلك الفترة. وقد انعكس تحسّن أوضاع الاقتصاد على عامة الشعب، وتحولت فئات من الطبقة الفقيرة إلى متوسطة، مع تحديث أساليب الزراعة، مما أدى إلى تراكم الثروة في الريف، وتحول رؤوس الأموال من الزراعة إلى التجارة والصناعة، وتحولت الورش الصغيرة إلى مصانع. وفي ذلك العهد، كانت البرجوازية السورية هي الحامل الاجتماعي لأحزاب الأغلبية في البرلمان -حزبا الشعب والوطني- في أجواء من الحرية الصحافية واستقلال القضاء بصورة كبيرة.ذلك الدور الناهض بالاقتصاد السوري، تعرض لأضرار كبيرة في عهد الوحدة مع مصر، ومن ثم، في عهد حكم البعث بين 1963 و1970، مع إجراءات التأميم والإصلاح الزراعي، والعداء للبرجوازية الوطنية، التي هاجرت شريحة كبيرة منها، خارج البلاد. ومع انقلاب حافظ الأسد عام 1970، استبشرت هذه البرجوازية، خيراً. وعلّق تجار سوق الحميدية لافتة كُتب فيها: "طلبنا من الله المدد، فأرسل لنا حافظ الأسد". وبالفعل، خفّف الأسد الأب من الإجراءات الرقابية على حركة البضائع، وأتاح تأسيس شركات مساهمة مشتركة بين القطاع العام والخاص، وشركات مساهمة. لكنه في الوقت نفسه، أبقى الغلبة للقطاع العام، ولسيطرة الدولة وتدخلها الكبير في الحياة الاقتصادية. وفي تلك الحقبة تفاقم الفساد الإداري، واضطرت البرجوازية التقليدية التي بقيت في البلاد للتكيّف مع هذا الواقع، فتأسست شراكات غير معلنة بين رؤوس أموال ومسؤولين في الدولة، انعكست سلباً على اقتصاد البلاد ومعيشة سكانها. فارتفعت معدلات التضخم، وانهارت الليرة، ولم تعد الرواتب تكفي للبقاء على قيد الحياة. قبل أن تنحدر البلاد في العقدية الأولى من حكم بشار الأسد إلى عهد برجوازية أولاد المسؤولين، التي أخضعت البرجوازية التقليدية وتسيّدت عليها. ومن ثم، خاضت البلاد عهد أمراء الحرب وتجارها، في العقدية الثانية من حكم الأسد الابن. قبل أن تتحول البلاد برمتها، إلى نهبٍ لشركات واجهة ورجال أعمال مجهولي الخلفية برتبة مدراء تنفيذيين لدى آل الأسد، وصولاً بالبلاد إلى قاع غير مسبوق من الانهيار الاقتصادي والمعيشي.واليوم، تعيش البلاد فرصة تاريخية، لاستعادة برجوازيتها المهاجرة، لتكون رافعة رئيسية للنهوض بواقع البلاد التعيس اقتصادياً. لكن يبقى ذلك وقفاً على شكل الحكم المرتقب. ففي ظل أجواء ديمقراطية، يمكن الرهان على دور وطني إيجابي لهذه البرجوازية. أما، في حال تفرّد السلطة الجديدة بالحكم، فالرهانات ستذهب باتجاه معاكس تماماً.
وإن لم يرفع تجار دمشق لافتة تخص أحمد الشرع بالترحيب، كما فعلوا مع حافظ الأسد قبل أكثر من نصف قرن، إلا أنهم خصوه بلقاء ملفت في 18 كانون الأول الفائت. وعبّرت تصريحات ممثليهم عن الاستبشار بالعهد الجديد. وهنا، تنبجس مخاوف مشروعة من ماضي تجربة حكم الشرع في إدلب، التي عرفت شراكات احتكارية ربطت بين ناشطين بقطاع الأعمال هناك، وبين متنفذين. وما قد يقطع الطريق على تطوّر هكذا مخاوف إلى واقع، هو الانتقال التدريجي، لكن السريع، إلى نظام حكم ديمقراطي، عبر تنفيذ البنود المتعلقة بذلك، في القرار الدولي 2254. وهو ما قد يحدد طبيعة الدور الذي يمكنه أن تلعبه البرجوازية السورية، في المقبل من الأيام.