2025- 01 - 01   |   بحث في الموقع  
logo توقعات ميشال حايك لعام ٢٠٢٥ : عام غامض على لبنان وحزب الله لا يموت له ميت... logo حزب الله ومصيره: من المقاومة إلى ذراع إيرانية logo منع اللاعبين الإسرائيليين من المشاركة في بطولة العالم للبولينغ logo إخماد حريقين في المحمرة وببنين logo الشرع يلتقي "قسد" وممثلي الكنائس: طمأنة للأقليّات logo كأس الخليج لكرة القدم: عُمان تهزم السعودية وتعبر لنهائي المسابقة logo بالفيديو: حريق يلتهم خيماً للنازحين في عكار logo افتتاحية “الجمهورية”: التحدّي في الـ 2025: انتظام الدولة وتجنّب العواصف
عن مسيحيّي سوريا وعقدة الخوف
2024-12-29 11:55:46

إبّان شهر شباط/فبراير من العام 2011، أمّ بعض الصحب حلب الجميلة للاشتراك في حلقة دراسيّة نظّمتها آنذاك حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. في إثر انتهاء الحلقة، شربوا العرق في أحد مطاعم حلب القديمة، وغنّوا بالعربيّة والأرمنيّة. كانت تباشير الربيع العربيّ قد شرعت تلوح في تونس ومصر المحروسة. لكنّ أجواء عاصمة الشمال السوريّ، هذه التي ورد ذكرها بالإسم للمرّة الأولى في كتابات مسماريّة تعود إلى أوائل الألف الثاني قبل الميلاد، لم تكن تُنذر بامتداد ربيع العرب إلى سوريا. سمعنا آنذاك صفوة الحلبيّين تقول إنّ هذه ثورة خبز وفقراء، كأنّ الفقر ما كان جاثماً على صدور ملايين السوريّات والسوريّين، الذين كانوا يعيشون على قارعة الفورة الاقتصاديّة التي شهدها بلدهم بعد استلام طبيب العيون دفّة الحكم على جبل قاسيون. بيد أنّ الثورة لم تتأخّر في سوريا، إذ ما لبثت أن اندلعت بعد نحو شهر من تلك الزيارة. وكانت، في طلائعها، ثورةً عبقريّةً في سلميّتها ولاعنفيّتها. وكانت، كما كتب الباحث اللاذقيّ نجيب عوض، أوّل ثورة في التاريخ أطلق شرارتها أطفال. واتّضح للجميع أنّها لم تكن ثورةً من أجل الخبز فحسب، بل من أجل الحرّيّة أيضاً، ومن أجل الحرّيّة بالدرجة الأولى. وما أدراك ما الحرّيّةللذين تخونهم الذاكرة اليوم، لا بدّ من التذكير بأنّ المسيحيّين آنذاك ما كانوا يختلفون عن سائر السوريّات والسوريّين في تعاملهم مع الثورة. والحقّ أنّهم لم يختلفوا عنهم يوماً إلّا بالانتساب إلى المسيح، كلمة الله وروحه في القرآن الكريم. بعض المسيحيّين أيّد الثورة وانخرط فيها. وبعضهم توجّس منها وحاربها، خصوصاً بسبب مصالحه التجاريّة أو السياسيّة. غير أنّ معظم المسيحيّين ظلّوا صامتين إبّان الأشهر الأولى، شأنهم شأن غالبيّة الشعب السوريّ، ولا سيّما في دمشق وحلب. هل تذكرون أنّ هاتين المدينتين الكبريين وقفتا على الحياد بادئ ذي بدء؟ ألم يعتبر بعض القوم فيهما أنّ هذه ثورة أرياف ومدن مهمّشة، مثل درعا وإدلب، حتّى إنّه كان يتمنّى لأهل الريف أن يمعن النظام القمعيّ في الانتقام منهم، لأنّهم هم الذين أتوا بحزب البعث إلى الحكم، كما أخبرنا ذات يوم صادق جلال العظم، رحمه الله، في أحد المؤتمرات البرلينيّة.خلاصة القول، إذاً، أنّ المسيحيّين لم يكونوا أكثر خوفاً من سائر أطياف الشعب السوريّ. هذا الخوف لم يكن يوماً حكراً على المسيحيّين، بل هو إيّاه الخوف من النموذج الصيدناويّ، الذي أمعن نظام البعث في نشره وتعميمه طمعاً في ترهيب الناس وتدجينهم. طبعاً، نجح هذا النظام في تشويه صورة الثورة السوريّة وتطييفها في عقول كُثُر، ما جعل الكلّ يخاف من الكلّ. وقد تسنّى له أيضاً، بدعم من حلفائه في لبنان، الترويجُ لنظريّة "حلف الأقلّيّات"، التي تبنّاها عدد كبير من المسيحيّين، بمن فيهم بطاركة ومطارنة وكهنة. لكنّ عدداً لا يستهان به منهم فنّد هذه النظريّة وفكّكها، ودفع ثمناً لذلك قتلاً وتهجيراً وتشريداً وأبلسةً من الأبعدين ومن ذوي القربى معاً: "وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً/على المرء من وقع الحسام المهنّدِ" (طرفة بن العبد). في ما بعد، تحوّل هذا الخوف إلى خوف مزدوج: خوف من بطش النظام واستبداده، وخوف من النموذج الداعشيّ، الذي أصاب المسلمين أوّلاً، وقبل سواهم، بما لم تصبهم به أيّ آفة أخرى في تاريخهم الحديث. لكن حتّى هنا لم يكن الخوف المسيحيّ "مسيحيّاً"، بل كان خوف المجتمع برمّته من نموذج إسلامويّ عنفيّ يستعيد أسوأ ما في الشريعة الإسلاميّة، ويسعى إلى تطبيق هذا الأسوأ بالقوّة، علماً بأنّ الدارسين الثقات يخبروننا بأنّ بعضاً منه إن هو إلّا منتج نظريّ ما كانت له يوماً أصداء فعليّة في الواقع.هذا لا يستتبع طبعاً أنّ المسيحيّين ليسوا بخائفين على مستقبلهم في سوريا الجديدة. هم يخافون من أسلمة المجتمع التي يروّج لها بعضهم على وسائل التواصل، والتي يشتدّ الذعر حيالها حين نسمع عن رئيس وزراء يخطب في مسجد بني أميّة، أو عن تعيين موظّفين كبار هنا وثمّة من لا يعرفون من منظومة القانون إلّا أحكام الشريعة. والأنكى أنّ هذا الخوف يؤول إلى ظاهرة تطرّق إليها السيّد أحمد الشرع هي استحضار جروح الذاكرة التاريخيّة لتبرير سلوكيّات الراهن. هكذا يستعيد بعض المسيحيّين تاريخهم الذمّيّ الطويل في حمى الخلافة الإسلاميّة، ويسقطونه على الحاضر، إمّا لإعادة إنتاج ذمّيّات من نوع آخر لدى إيران وروسيا وسواهما، وإمّا لتبرير المغالاة في القلق من المستقبل، والخوف المفرط من المسلم السنّيّ تحديداً، الذي نتشارك معه في الأرض والهواء والشجر والحجر والخبز والملح والجمال والثقافة منذ مئات السنين. لكن من المهمّ التأكيد أنّ هذا الخوف ليس ظاهرةً "مسيحيّةً" حصراً، ولا هو خوف يقتصر على "الأقلّيّات"، بل هو خوف العقلاء جميعهم من أن تنزلق سوريا إلى غياب العدل، والعدل هو "أساس المُلك" كما قالت العرب، وأن تنجرف إلى متاهة تطبيق شريعة القويّ على الضعيف، وهي الذهنيّة التي تفوح من بعض أحكام الشريعة الإسلاميّة.ترياق هذا كلّه هو الكلام الحصيف الذي ورد على لسان السيّد أحمد الشرع في أثناء استقباله الوفد الدرزيّ الذي أتاه من جبل لبنان. لقد تكلّم هذا الرجل عن "عقد اجتماعيّ" جديد مستعيداً، للذين لا يفقهون، لفظاً نحته جان جاك روسّو، أحد أبرز فلاسفة عصر التنوير. وتكلّم أيضاً على بناء الدولة التي تحمي الجميع، بما يتعارض جذريّاً مع فكرة الحماية الذاتيّة، التي يروّج لها بعض أغبياء المسيحيّين (وغيرهم طبعاً)، ومع منطق استدعاء الحمايات الخارجيّة. كذلك ثمّن الشرع ضرورة شفاء الذاكرة المجروحة بين الشعبين اللبنانيّ والسوريّ، فإذا بنا أمام خطاب جديد لم نسمعه من ذي قبل على لسان أيّ من ساسة سوريا. وانتقد ما يقوم به بعضهم من استحضار لحكايات الماضي وأساطيره في سبيل تبرير عنف الحاضر.
لئن كانت العبرة بالأفعال لا بالأقوال، إلّا أنّ ما قاله السيّد الشرع ينمّ عن حكمة قلّ نظيرها بين الساسة، ويدلّ على فهم عميق لطبيعة المجتمعات العربيّة، ولا سيّما المجتمع السوريّ، بعيداً من الاختزال والتسطيح. وهذا في ذاته أمر واعد، ويمكن التأسيس عليه لإعادة بناء هذا الوطن المهشّم الذي اسمه سوريا.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top