لم يكن سقوط النظام السوري مجرد نهاية لحكم ديكتاتوري استمر 54 عاماً، بل كان دليلاً على هشاشته الحقيقية التي ظل يخفيها تحت طبقات من القمع والدعاية والتحكم بالإعلام. وأعاد مشهد انهيار المؤسسات الأمنية والعسكرية للنظام في غضون سبعة أيام فقط المفهوم العالمي عن الاستبداد، ليؤكد أن الأنظمة المبنية على الخوف والولاء الزائف مصيرها السقوط مهما طال أمدها.وفي 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، استيقظ العالم على سقوط نظام الأسد الذي حكم البلاد لعقود بقبضة من حديد، وكان رمزاً للاستبداد والوحشية التي لا يوازيها ربما سوى نظام كوريا الشمالية. وغيرت تلك اللحظة الاستثنائية مسار التاريخ السوري الذي كان يعيش في حالة تشبه الموت السريري بسبب الجمود السياسي التي ساد المنطقة لسنوات ومحاولات إعادة الأسد عربياً ودولياً رغم كل الانتهاكات التي ارتكبها ليس فقط منذ العام 2011 بل منذ العام 1970 عند استيلاء حافظ الأسد على السلطة بانقلاب عسكري، ما ظهر بشكل فيضان من الصور والفيديوهات التي كشفت لمن لا يعرف معنى الحياة في سوريا الأسد.وطوال أيام، تدفقت الصور والفيديوهات من داخل مراكز النظام الأمنية التي لطالما كتبت عنها التقارير الحقوقية والإعلامية في الصحافة المستقلة خصوصاً في العالم الغربي، لتكشف عن حجم الوحشية التي تعرض لها السوريون لعقود. كان أبرزها ما خرج من "سجن صيدنايا العسكري" المعروف بـ"المسلخ البشري"، حيث تحولت الجدران الملطخة بالدماء، والمقابر الجماعية المحيطة به، إلى شهادة على عقيدة النظام المبنية ليس فقط على إلغاء الإنسان تماماً، بل التعامل معه على أنه كائن أدنى لا يستحق العيش في "مزرعة الأسد"، وإن سمح له بالعيش بعدها، يجب عليه أن يشكر العائلة المجرمة بقية حياته على تلك المكرمة المتمثلة في البقاء على قيد الحياة.هذه المشاهد أثارت صرخة عالمية ضد تقاعس المجتمع الدولي في محاسبة نظام استباح حياة البشر لعقود، وحتى في الدول الغربية كان هنالك مواطنون عاديون لا يصدقون أن دولاً تتحدث عن حقوق الإنسان ومنظمات مثل الأمم المتحدة، سمحت باستمرار مثل ذلك النظام طوال عقود، لأن كمية الإجرام التي خرجت كانت أكثر من صادمة، خصوصاً أنها لم تكن حالة فردية مثلاً بل نظاماً منهجياً كان الجميع يعرف بوجوده ويصمت لاعتبارات سياسية مختلفة.وفي صيدنايا، كانت الغرف تُستخدم ليس فقط للتعذيب بل لإبادة منهجية، حيث تم توثيق وجود مكابس لطحن الجثث وغرف ملح للحفاظ على بقايا الضحايا، وغرف للمشانق وأخرى للإعدامات الجماعية، فيما كانت الأوراق الرسمية الخاصة بالسجن عرضة لانتهاكات من نوع آخر، على صعيد الاستهتار الإعلامي بأهمية التوثيق في هذه المرحلة التي تتطلب السعي وراء العدالة والمساءلة، بدلاً من الشهرة في مواقع التواصل الاجتماعي فقط.والمقابر الجماعية التي انتشرت في أنحاء البلاد وظهرت صورها على الصفحات الأولى لوسائل إعلام عالمية، أكدت أن هذه الجرائم لم تكن استثناءً، بل نهجاً تبناه النظام. ومع اكتشاف الوثائق التي تحتوي على أسماء المعتقلين وأوامر الإعدام، باتت الصورة أكثر وضوحاً. لكن الفوضى التي رافقت انهيار النظام أدت إلى إهدار الكثير من هذه الوثائق، حيث أُحرقت بعضها للتدفئة من قبل الأهالي الذين كانوا يبحثون عن خيط يوصلهم لأحبائهم المفقودين، أو تُركت للإهمال، أو حتى لتعفيش قوات النظام البائد أنفسهم ممن عادوا إلى السجون وتظاهروا بأنهم معتقلون سابقون، وتم إثبات هوياتهم لاحقاً، ما يمثل خسارة كبيرة للعدالة على المدى الطويل.والحال أن سرعة انهيار نظام الأسد صدمت للكثيرين، ولم يصدق أحد أن ماجرى كان حقيقاً حتى لحظة خروج البيان الأول من "التلفزيون الرسمي" وحتى حينها، ظن البعض أن عملية قرصنة قد حصلت، لأن شعار الأسد للأبد كان حتى بالنسبة للمعارضين ثقيلاً وحاضراً لدرجة أن إمكانية سقوط النظام كانت حلماً بعيد التحقق خصوصاً بعد تحول الثورة إلى حرب أهلية وبقاء النظام في الحكم بسبب دعم حلفائه الروس والإيرانيين.وكان الإعلان الأخير عن أن حقبة مظلمة من تاريخ سوريا انتهت، وأن زعيم المافيا الأسدية بشار الأسد، فر إلى روسيا عبر قاعدة حميميم، كفيلاً بتغير شكل المنشورات في منصات التواصل، وكأن البلاد عادت لألوانها الطبيعية، بعد امتصاص دمها على مر 5 عقود كاملة، ورغم ذلك التورد كان واضحاً مدى تهالك مؤسسات الدولة والجروح التي يعاني منها المجتمع والقصص المأساوية لملايين السوريين.والتشكيك اللحظي بسقوط النظام خصوصاً من قبل الموالين له، يعود جزئياً إلى الدعاية الرسمية التي رسمت صورة منتصرة للنظام منذ انتهاء معركة حلب العام 2016 وهدوء جبهات المعارك في البلاد، وصولاً للحظات الأخيرة من عمر النظام الذي رفضت وسائل إعلامه حتى آخر ثانية تصديق هروبه واستمرت في تقديم ضخ كاذب بشكل ذكر بشعار الثورة السورية القديم في المظاهرات السلمية: "الإعلام السوري كاذب"، وهو نفس الإعلام الذي بنى صورة فوق واقعية لسوريا كدولة رغم أنها كانت كومة من الخراب التي تحكمها عصابة تمارس الترهيب والتعذيب وتجارة المخدرات وغيرها من المشاكل المثيرة للقلق في المحيط العربي ككل.وعداء النظام السوري للإعلام المستقل منذ عقود، كان سبباً في الفوضى الإعلامية اللاحقة عند سقوطه، حيث كانت طريقة الكشف عن الانتهاكات خصوصاً في المعتقلات سيئة السمعة، كارثية أحياناً، بسبب غياب الصحافة المحترفة داخل سوريا، حيث تولى الناشطون والمواطنون الصحافيون تلك المهمة. وانتشرت الصور الملتقطة بالهواتف الذكية من داخل السجون والمعتقلات والمقابر الجماعية، لتنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، لتصبح الشاهد الأول على انهيار النظام.وفي عصر يهيمن فيه الإعلام المرئي على تشكيل الرأي العام، أثبتت الصور أنها أقوى من الكلمات والخطابات. مشاهد سقوط النظام كانت أكثر من مجرد وثائق، بل كانت أداة لإعادة تشكيل الرأي العام العالمي حول سوريا. لكنها في الوقت ذاته أظهرت تحديات جديدة، مثل انتشار الأخبار المضللة وصعوبة التحقق من صحة المعلومات في غياب المؤسسات الإعلامية المستقلة.هذا النموذج المتعلق بصحافة المواطن والتسريبات التي تخرج هنا وهناك ومصورة بطرق بسيطة، لم يعد ناجحاً بعد سقوط النظام، مثلما كان الحال في بدايات الربيع العربي عندما كان الأفراد يتحدون دكتاتوريات راسخة خوفاً من القمع والاعتقال، متخفين وراء أسماء وهمية وملتقطين صوراً وفيديوهات وفرت نافذة على عالم من الانتهاكات التي يتم التعتيم عليها. والحالة الجديدة اليوم تتطلب عملاً مؤسساتياً منظماً، لتفادي الوقوع في فخ الاخبار الكاذبة أو المحرفة، التي لم تنجو منها حتى أكبر وسائل الإعلام العالمية التي حاولت تغطية الحدث الفوضوي، مثل مراسلة "سي إن إن" كلاريسا وارد التي التقت معتقلاً منسياً في زنزانة أسدية، ليتبين لاحقاً انه ضابط في السجن نفسه.وربما يعطي ذلك لمحة عن أهمية إعادة بناء علاقة السوريين مع الإعلام ككل في الدولة الجديدة مهما كان شكلها، لأن إقصاء الإعلام لعقود وتحويله إلى مجرد بوق للسلطة وناطق باسمها كان كارثياً وقد تلاحظ تبعاته لعقود قادمة، وفيما كان جهود الناشطين الإعلاميين عنصراً أساسياً في الثورة، فإن الوقت حان كي يمارس الصحافيون المحترفون والمدربون عملهم بحرية، مع ضرورة استخدام الإعلام كأداة للمساءلة والتغيير.وهنا، يحتاج الإعلام السوري إلى تحول جذري، فبناء إعلام حر ومستقل، قادر على تقديم صورة دقيقة للمجتمع ومساءلة السلطة، هو ضرورة لا غنى عنها لضمان استقرار سوريا، لان النظام نجح تماماً في تشويه سمعة الإعلام والصحافيين بوصفهم مخبرين ومتواطئين مع السلطة. وهذا التحول لن يبدأ إلا ضمن بيئة توفر الأمان للراغبين في دخول هذا المجال، وتدريبهم بشكل احترافي، مع التأكيد على أن تكون المؤسسات الإعلامية منفصلة تماماً عن سطوة الدولة أو مؤسساتها الأخرى ومحمية بموجب الدستور، لكي تلعب دورها المفصلي بأن تكون الرقيب على ممارسات الدولة ونقل الحقيقة وليس الدعاية أحادية الجانب التي مارسها الأسد منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو أمر اعتاد عليه السوريون المعارضون ممن عاشوا في المنافي الغربية أو حتى في مناطق المعارضة التي شهدت ازدهاراً لوسائل الإعلام فيما عرف بتجربة "الإعلام السوري البديل".استعادة السوريين لفضائهم العام وصوتهم المغيب بدأت بالفعل، حيث باشر فنانون وكتاب وصحافيون ومحررون من المعتقلات، برواية تجاربهم مع النظام ونجاتهم منه، وعاد كثير منهم إلى سوريا بعد اغتراب في المنافي لمدة تزيد عن 10 سنوات، وبعضهم خرج للإعلام للمرة الأولى ليحكي ما كان يحدث وراء الكواليس وكان من المحرمات ذكره، ليس فقط لأنفسهم وداخل منازلهم وغرفه نومهم، بل وحتى في أحلامهم. هذه القصص ليست مجرد تعبير عن الألم، بل أدوات لتوحيد السوريين وبناء وطن جديد يحتفي بجميع أبنائه.