تترافق الفرحة العارمة للسوريين بإسقاط نظام للرئيس المخلوع بشار الأسد، مع تخوف محق سوري أولاً، وعربي ثانياً. فبقدر غضب السوريين من الدمار الداخلي الذي سببه الأسد، فإنهم، وبنفس الدرجة، مستائين من سياساته السابقة التي أبعدت سوريا عن الحاضنة العربية وحولتها إلى مركز إقليمي لتصدير الفوضى. وبينما يواجه السوريين اليوم أكبر تحدٍ لزرع جذور الاستقرار في البلاد، فإن المجموعة العربية تواجه تحديات مماثلة لتأمين تعافي سوريا وعودتها كأحد المحاورالرئيسية للعمل العربي.
تصدير الفوضى
من المهم بداية التذكير بمقومات مقاربة الأسد مع الدول العربية خلال العقد الماضي. فقد اعتمدت هذه المقاربة على ثلاثة عوامل رئيسية لتصدير الفوضى. أولاً، التهجير الجماعي للسكان وخلق حالة ضغط اجتماعي واقتصادي وسياسي على دول الجوار. ثانياً، إغراق دول الجوار بالمخدرات وخلق أعباء أمنية تمتد أبعد من حدود هذه الدول. وثالثاً، تعميق الفراغ الأمني داخل سوريا لخلق مساحات للتجمعات الإرهابية العابرة للحدود. نجحت هذه المقاربة بفرض أمر واقع معين على المحيط العربي مما فتح المجال لاحقاً للتواصل مع النظام على مبدأ الواقعية السياسية ومحاولة التقليل من الأضرار.
من هنا تنبع الحاجة الأن لمبادرة عربية إيجابية تجاه سوريا تضع خارطة طريق لعودة سوريا للشراكة والتكامل مع محيطها العربي.
التحديات
ستواجه هذه المبادرة، تحديات تتمثل أولاً بالحساسية المتبادلة. فقد شهدت المنطقة صدام حاد بين تيارات الإسلام السياسي والأنظمة الحاكمة خلال الحقبة الماضية. ورغم أن الثورة السورية قد حافظت على تعددها وتنوعها المجتمعي والسياسي منذ انطلاقتها عام 2011، إلا ان الواقع الحالي هو تصدّر تجمعات سورية مرتبطة بالإسلام السياسي لمرحلة إسقاط النظام خلال الأسابيع الماضية. تبرز من هذه النقطة أهمية احتواء هذا التيار كجزء مدني من أحد أطياف العمل السياسي السوري، مقابل التزام هذه المجموعات بأجندة وطنية سورية مدنية. ستشكل هذه الخطوة جسر العبور الأهم في علاقات سوريا مع محيطها العربي أولاً، وجسر العبور الدولي لاحقاً.
ثاني التحديات هوإخفاق المقاربات السابقة. فقد تبنت الدول العربية في السنوات السابقة مقاربات لاحتواء نظام الأسد، قوبلت برفض شعبي سوري رأى في هذه السياسات محاولات لإعادة تأهيل الأسد على حساب دم الشعب السوري، وأصبح يقيّم كل المبادرات العربية من هذه الزاوية.
مما لا شك فيه أن الموقف العربي بإخراج الأسد من الجامعة العربية عام 2012، قد أعطى فرصة كبيرة للتيارات السياسية السورية المعارضة، ولكن الواقع أن تعثر القيادات السياسية المعارضة التي تصدرت المشهد حينها، هو مماثل لتعثر المقاربات العربية لاحقاً بمحاولة تغيير سلوك النظام. وبالتالي فإن مقاربة عربية جديدة ستساعد على إعادة الثقة الشعبية بشراكة عربية مستقبلية.
والتحدي الثالث هو حجم التوتر الإقليمي حالياً. فسياسة الهيمنة الإقليمية التي يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فرضها على المنطقة، تعتمد بأحد مكوناتها على سوريا مهمشة ومفككة. وبالتالي فإن أي عودة فعليه لسوريا للمنطقة العربية يجب أن ترتكز على تحويل البلد من ساحة معركة للأخرين إلى شريك إقليمي فعال ذو سيادة. هذه الشراكة هي حاجة سورية وحاجة عربية وإقليمية بنفس الدرجة.
خطوة بخطوة بأسلوب جديد
يبدو واضحاً توجس الدول العربية من التغيير في سوريا، وبالتالي فالخطوة الأولى يجب أن تصدر من سوريا لبناء الثقة وفتح باب الشراكة الإقليمية لتشمل على الأقل ثلاث محاور رئيسية:
أولاً، شراكة واضحة لتحقيق المرحلة الانتقالية وفق معطيات القرار الدولي 2254، وبما يتناسب مع التغييرات الأخيرة. فإدخال الجامعة العربية ككتلة رئيسية ضامنة لمراحل تنفيذ القرار، سيوازن التأثير الدبلوماسي لمحور أستانة. سيضمن هذا التوازن امتلاك السوريين الكامل للمرحلة الانتقالية بكل تفاصيلها وبنودها، كما أنه سيحقق توازناً مجتمعياً داخل سوريا في المرحلة الانتقالية، يساعد السوريين على تجنب الصراعات الداخلية في المرحلة اللاحقة وتجنب الاستقواء بالخارج.
يستند المحور الثاني على المساعدة لتأهيل بعض القطاعات الحكومية والاقتصادية والأكاديمية. فسنوات الحرب وتهجير الكفاءات، مسبوقة بسنوات من نظام شمولي جامد، حوّل هذه المؤسسات إلى كتل متحجرة بعيدة عن المتطلبات اليومية للشعب، وغير قادرة على مواكبة العصر. شكلت هذه المؤسسات عبئاً إضافياً دفع الكثير من الخبرات للخروج من معظم الهيئات الحكومية والأكاديمية، وجذرت عند المواطن أسلوب البحث عن حلول بديلة لتلبية حتى حاجاته الأساسيةز
يركز المحور الثالث على توسيع الشراكة الاقتصادية على أساس تنموي. ففي حين تتجه الدعوات لفتح طرق المساعدات الإنسانية العاجلة - وهي دعوة محقة - إلا أن الحاجة الأهم هي لإعادة تأهيل القطاع الاقتصادي السوري. يتطلب هذا التأهيل خطوات أساسية قانونية ورقابية وإدارية تنمو فقط ببناء شراكات عربية ودولية. ستؤسس هكذا هيكلية لبنية قوية قادرة على استقطاب رؤوس الأموال السورية لتساعد في تطوير ركائز الاقتصاد السوري، وستدعم هذه البنية لاحقاً، الإدارة الكفؤ لأي صندوق مستقبلي لإعادة الإعمار. بدون هذه الخطوات فإن معظم الموارد ستذهب بدون استثمار حقيقي كما حدث في تجارب سابقة في المنطقة وسيجد الشعب السوري نفسه مكبلاً بديون إضافية لأجيال قادمة.
لعل الشعب السوري قد دفع الثمن الأكبر في هذه الألفية على أمل بناء مستقبل أفضل أساسه الحرية والعدالة. وكما أنه بحاجة لمحيطه العربي ليعزز هذا البناء، فإن المحيط العربي أيضاً بحاجة لسوريا قوية متماسكة ومحورية.