في مختلف الأوساط المصرفيّة، بات هناك قناعة بتراكم مجموعة العوامل الضاغطة باتجاه بدء مسار إعادة هيكلة المصارف، بعدما مضت خمس سنوات على بدء الأزمة من دون الشروع بتنفيذ أي خطّة شاملة للحل. ربط مساعدات إعادة الإعمار بالإصلاحات المطلوبة من جانب صندوق النقد الدولي، والضغط الدولي باتجاه ملء الفراغ في سدّة الرئاسة، ناهيك عن إعادة تشكيل المشهد السياسي المحلّي وفق توازنات جديدة، كلها أسباب كافية لتحريك مختلف الملفّات الماليّة المُعلّقة خلال العام المقبل. وكان من الممكن، خلال الأشهر الماضية، رصد بعض التطوّرات في السوق، التي تعكس هذا الاعتقاد الشائع اليوم.الأسواق تتفاعل مع التطوّرات المستجدةخلال الأسابيع الماضية، لم تكن الأسواق بعيدة عن التفاعل مع هذه الأجواء. حماسة بعض المصارف لتقديم بعض العروض، لسحب الودائع المدولرة وفق سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار، أظهر رغبتها بتحسين وضعيّة ميزانيّتها قبل دخول مسار إعادة الهيكلة، الذي يفترض أن يبدأ بتحديد متطلّبات إعادة الرسملة أولًا.
ومن المعلوم أنّ هذه العروض كانت تعني عمليًا شطب التزامات دولاريّة متوجّبة على القطاع، في مقابل تسديد أموال بالعملة المحليّة، يمكن الحصول عليها من ودائع جديدة بالليرة. نتيجة العمليّة هي بكل بساطة تخفيض حجم الفجوة الناشئة عن الفارق بين التزامات القطاع وأصوله بالعملات الأجنبيّة.
وقبول بعض كبار المودعين بهذه العروض، لم يكن سوى نتيجة لاعتقادهم بأنّ ما يمكن تحصيله على هذا النحو، أفضل مما ستعرضه لهم أي خطّة حكوميّة ماليّة مرتقبة. ومن البديهي أن هذه الشريحة من المودعين راجعت آخر نسخات خطط التعافي المالي أو إعادة هيكلة القطاع، والتي طرحت أفكارًا تربط الودائع الكبيرة بمسارات زمنيّة طويلة جدًا وباقتطاعات كبيرة من قيمة الودائع. في النتيجة، كان الحصول على الودائع بسعر صرف يوازي 15 ألف ليرة للدولار أفضل، بالنسبة لبعض كبار المودعين، من المراهنة على انتظار خطط التعافي وما ستحمله من حلول.مؤشّرات أسواق المال الدوليّةكما يمكن رصد مؤشّرات أخرى مشابهة في أسواق المال الدوليّة. فحتّى مساء يوم أمس الجمعة، كانت أسعار سندات اليوروبوندز قد ارتفعت في الأسواق لتلامس حدود الـ 13.1 سنت للدولار، في مقابل أسعار لم تتجاوز الـ 5.875 سنتاً للدولار قبل توسّع الحرب على لبنان. بهذا الشكل، كان حملة السندات على قناعة أيضًا بأنّ المرحلة المقبلة سترفع من احتمالات تحريك الملفّات والمعالجات الاقتصاديّة المعلّقة، وهو ما ظهر في ارتفاع إقبالهم على شراء سندات اليوربوندز او زيادة محفظتهم منها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ اتفاق لبنان المبدئي مع صندوق النقد الدولي نصّ على شروط ترتبط بوضع خطّة لإعادة هيكلة الدين العام، إلى جانب استراتيجيّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. ومن المفترض أن يذهب المساران بشكلٍ متوازي ومترابط، لإعادة الدولة اللبنانيّة إلى أسواق الدين الدوليّة، في مقابل إعادة الانتظام إلى القطاع المالي. وكان "بنك أوف أميركا" قد نشر في وقتٍ سابق من هذا الشهر تقريرًا أشار فيه إلى أنّ الوجهة العامّة في توقّعات المستثمرين تترقّب إعادة ترتيب المشهد السياسي في لبنان، وهو ما يمكن أن "يحرّك" بعض الإصلاحات الماليّة المعلّقة منذ سنوات.
في جميع الحالات، من المفيد هنا العودة إلى آخر تقارير "غولدمان ساكس"، التي قدّرت قيمة الاسترداد التي يمكن أن يحصل عليها حملة سندات اليوروبوند بنحو 25 سنتاً للدولار. وهذا ما يفسّر إقبال المستثمرين في الأسواق الدوليّة على شراء سندات اليوروبوند، بموازاة زيادة منسوب التفاؤل بإمكانيّة تنفيذ خطّة تعافي ماليّة شاملة، وفق بنود التفاهم مع صندوق النقد الدولي.أسباب للتفاؤل والتشاؤمفي مجريات الحياة السياسيّة اليوم ما يدفع للتفاؤل بالفعل، وفق ما يتم تداوله في أوساط المودعين والمصرفيين والمستثمرين. فعمليّة إعادة الإعمار ستكون مربوطة بالخطّة التي يجري العمل عليها حاليًا مع البنك الدولي، والتي سترتبط بدورها بمجموعة من الإصلاحات الماليّة والنقديّة، المنصوص عنها أساسًا في الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ومن المستبعد أن تسير قاطرة هذا المسار، من دون تنفيذ الحد الأدنى من الإصلاحات الماليّة المرتبطة بالقطاع المصرفي، الذي يفترض أن تمر عبره المساعدات الخارجيّة. بهذا المعنى، سيكون صعبًا –على النخبة السياسيّة المحليّة- أن تطيح بأي خطّة تعافي ماليّة يمكن اعتمادها مستقبلًا، بالنظر إلى التداعيات الاجتماعيّة الصعبة التي يمكن أن تنتج عن تأخير إعادة الإعمار.غير أنّ بعض الأصوات الأكثر تشاؤمًا تذكّر بأصعب أنواع الضغوط الماليّة والنقديّة، التي مرّ بها لبنان منذ العام 2019، والتي لم تتمكّن من إكراه النخب السياسيّة المحليّة على تقديم تنازلات أو إصلاحات بديهيّة. وعلى هذا النحو، استمرّت الأزمة لأكثر من 5 سنوات، رغم تداعياتها المعيشيّة القاسية، بما في ذلك تدهور سعر صرف الليرة وخسارة قيمة المدخرات. هذه الأصوات، تعتبر أنّ ربط مساعدات إعادة الإعمار بالإصلاحات الماليّة والمصرفيّة لن يساهم بالضرورة في تمرير الإصلاحات، بل قد يعرقل مسار إعادة الإعمار نفسه. وهذا ما يفترض أن يدفع إلى التروّي قبل التفاؤل باقتراب استحقاق إعادة هيكلة القطاع المصرفي.