متأخراً أشاهد فيلم "كذب أبيض" (2023) للمغربية أسماء المدير، وذلك في مهرجان للفيلم الأفريقي في لندن الشهر الماضي. قبل عام حقق الفيلم سلسلة الكبيرة من النجاحات في المهرجانات الدولية، في مايو 2023 حصد جائزتين في مهرجان كان، وبعد شهر فاز بجائزة أحسن فيلم في مهرجان سيدني للسينما، وفي ديسمبر من العام نفسه ربح جائزة مهرجان مراكش وجائزة أفضل إخراج من مهرجان "آي دي إيه" للأفلام الوثائقية، هذا عدا وصوله للقائمة القصيرة لجائزة أفضل فيلم أجنبي في دورة الأوسكار لهذا العام. ولم يحالفني الحظ لمشاهدة الفيلم طوال العام الماضي، وبالصدفة أشاهده قبل أسابيع قليلة من سقوط نظام الأسد وقبل أن تفتح حقول الموت السورية وتنبش مقابرها الجماعية. كما يقول عنوانه، ينطلق الفيلم من كذبه بريئة وحسنة النية من طفولة مخرجته، وبالقدر نفسه يتأسس على تفتيش في أرشيف الصور الشحيح لعائلتها. وتبدو تلك تيمة محببة لأسماء المدير، وهي التي انطلقت في فيلمها الأسبق "زاوية أمي" (2020) من بطاقة بريدية اكتشفتها بين متعلقات والدتها. ومثلما تقول في واحد من حواراتها السابقة، إن ندرة الصور في طفولتها هو ما حرضها على أن تكون مخرجة سينمائية.
من البداية، نعرف أن جدتها التي تحكم بيت العائلة كما يفرض أب قاس سلطته في رواية أجيال تقليدية، قد حرمت دخول الصور إلى البناية العائلية، مع استثناء واحد لصورة الحسن الثاني المعلّقة في شقتها. ولاحقاً سنكتشف علاقة وثيقة بين ما تمثله الجدّة في البيت وما يمثله الملك للوطن. ونعرف أيضاً أنّ الصورة الوحيدة للمدير في طفولتها ليست سوى صورة سرقتها والدتها من مدرسة وادعت كذباً إنها لها حتى تعوضها عن حرمان طويل من وثيقة للطفولة. كيف يمكن للمرء أن يعيش بلا صورة؟ أو بمعنى آخر بلا دليل على الماضي؟ والأدهى كيف يعيش بصورة آخر؟ أو بالأحرى بماض مزيف ومستعار؟
السردية التي تشبه تيمة صنف فليمي أضحى رائجاً في العقدين الماضيين ويتعلق بكشف الأسرار العائلية البريئة، تأخذ فجأة انعطافة مذهلة تكتم الأنفاس في هولها، يأخذنا "كذب أبيض" إلى العام 1981، إلى ذروة زمن القمع المعروف في المغرب بـ"سنوات الرصاص" أو "سنوات الجمر"، وتحديداً إلى مذبحة انتفاضة الخبز، حيث اقتحمت قوات الجيش أحياء مدينة الدار البيضاء الفقيرة وقامت بإطلاق الرصاص عشوائياً على السكان مخلفة مئات من القتلى، ومن اختطفت الجثث وأُلقيت في حفر ضخمة في مقابر جماعية سرية.
لمدة عشرة أعوام عملت أسماء المدير على فيلمها في مواجهة عدة غيابات، هي بالضرورة انعكاساً لتعريف العمل الوثائقي. لا أرشيف لصور المذبحة، محت السلطات المغربية أي دليل على الأحداث. ثمّة صورة واحدة فقط باقية عرضها الفيلم، هذا كل شيء. الأمكنة التي شهدت الجريمة لم تعد موجودة، بحكم الزمن أو بفعل فاعل. لم تتمكن أسماء المدير من التصوير في حي طفولتها لأسباب أمنية، أما عمرانه فتبدّل وملعب كرة الذي توسطه صار مقبرة جماعية للضحايا.
لكن ما تذكرنا به أسماء المدير من البداية وتلح عليه هو أنها مخرجة وليست صحافية، كما تصحّح لجدتها مرراً. ما تبحث عنه ليس الحقيقة، تلك التي على الأغلب لم تعد ممكنه، بل تسعى لشيء ما آخر يقع بين رفض البعض أن يتذكروا وعجز البعض الآخر عن النسيان.
بدلاً من الوثيقة وبدلاً من الموقع المحرّم على التصوير، تطلب المدير من والدها بناء مجسم مصغر لشارع طفولتها بكامل بنايته وطوابقه وشققه بكل محتوياتها، يقوم الوالد أيضاً بعمل عرائس طينية صغيرة للسكان، وتخيط الوالدة لها ملابس بمقاييس تناسبها اعتماداً على الذاكرة وحدها. يجتمع أفراد العائلة والجيران حول ذلك المجسم وفي أيديهم العرائس التي تمثلهم، ليعيدوا تمثيل تلك الأحداث الرهيبة وليحاولوا التعامل مع الماضي ومع بعضهم البعض. لا يعدنا "كذب أبيض" بشفاء ما أو بالتئام أو بالعدالة بل وربما العكس. لكن عبر جماليات هجينة ومتعدّدة الطبقات، وعلى خلفية من شريط صوتي لأغاني "ناس الغيوان"، يتتبع رحلة طويلة وشاقة وغير مكتملة للبحث عن الحقيقة خاضها أهالي الضحايا الذين لم يحصل بعضهم إلى اليوم على تأكيد بأماكن محددة لدفن ذويهم.