أجبرت سنة 2024 الكابوسية الجميع على الانغماس في الأرض، والتعامل المباشر مع تضاريسها وحدودها الملموسة، قبل أي اعتبارات أخرى. ولم يكن هناك أي مجال للالتفات خارج خرائط الحروب والبراكين والاشتعالات التي دارت رحاها الدامية، وتدور، في حزام المآسي الممتد في فلسطين ولبنان وسوريا وغيرها من أوصال المنطقة العربية. المثقفون والمبدعون العرب، بأطيافهم كافة، لم يكونوا في دائرة استثناء يتوهمها الفكر المجرد والفلسفة الطليعية والشعر المتجاوز. إنها نكتة باردة، تحت وطأة آلات القتل والتشريد والتجويع والاحتلال والخيانات، أن ينصرف قلم ما بعد حداثي، إلى إنكار واقع موضوعي متفجر، ونفي قضايا صارخة تستدعي كل ميراث الأخلاق وسائر مفاهيم الحقيقة والقيمة والإنسانية.
ليكن أكثرُ ما في العالم ظلاميًّا وعبثيًّا بقوة السلاح، ولكن الكلمة الحية، الشعرية على وجه الخصوص، لم يكن لها اختيار أو احتمال في 2024 سوى التشبث بآخر خيوط النور المتاحة، أو اختراعها من عدم، أو افتراضها، أو تخيّل وجودها أوّلًا؛ عسى أن تكون هذه الإشعاعات النابضة حاضرة لاحقًا في إحدى المصفوفات المعرفية أو السرديات اليقينية. هكذا، في حصاد 2024 الشعري، يمكن على سبيل المثال تفهّم عنوان ديوان "أكتب فلسطين.. متجاهلًا ما بعد الحداثة" (دار "يسطرون" للنشر والتوزيع) للشاعر المصري كريم عبد السلام، وهو من الشعراء المجددين المنتصرين إلى الابتكار في الكتابة، رؤية ومعالجة وصورًا ولغة.
إنه الشعر الذي يغرّد بقلبه ويحلّق بجناحيه فوق الجُرح العربي النافذ، ويتجاهل أي مسلك شعوري أو تعبيري أو فني قد يقود إلى تجاهل القضية الكبرى في المنطقة أو تحييدها أو تغييبها في وقت صارت فيه الإبادة وجهة نظر في عالم ميّت الضمير "أكتب فلسطين لأني لستُ قاتلًا أو شاهد زور. أكتبُ فلسطين ليتوارى شبح المنفى. أكتب فلسطين فتعود المستوطنات وطنًا. أكتب فلسطين فتطرد القواميس كلمة النكبة، ويتراجع الضباع إلى البحر. أكتب فلسطين لأنضم إلى الشهداء في ملكوتهم، والضحايا في محارقهم، واللاجئين في مخيماتهم، والمقصوفين في عراء الإنسانية".
هذا هو اختيار الحصاد الشعري الحيّ في سنة الموات المجاني الموزّع على البشر في المساكن والطرقات. هذا هو الفعل الذي تظل الكلمة الإبداعية تمارسه منتفضة حتى النهاية، وإن طرح الشعراء على أنفسهم أحيانًا في لحظات ضباب وقتامة مؤقتة تساؤلًا كالذي طرحه الشاعر عاطف عبد المجيد بشأن جدوى الكتابة "ماذا ستصنع قصيدة أو حتى مليار من القصائد لأطفال يُتّموا أو شُرّدوا أو قُتّلوا؟ لقد تساوى الكل أمام هؤلاء الأنذال الذين لا يمكن وصفهم بأنهم من جنس البشر". في المنعطفات الحرجة، لا يتقاعس الشعر؛ فن العربية الأول، عن الانخراط حتى النخاع في هموم الضمير الجمعي، وملامسة الملمّات المهيمنة. ولا يتعارض ذلك التوجه مع النزعة الفردية للشعر، في تقصيه المكابدات الداخلية، والمعاناة الخاصة العميقة. تنفتح القصيدة الجديدة الواعية على الذاتي والعام معًا، كوجهين لعُملة واحدة، إذ لا ينفصل الشأن الشخصي والشأن المجتمعي في يوميات إنسان منكوٍ بنار العصر، تضربه من كل الاتجاهات معارك وأزمات طاحنة، واضطرابات متشابكة لا حصر لها.مما ينطوي عليه سجلّ الحصاد الشعري أيضًا، في سنة التراجيديات المضطرمة، صدور أعمال وتجارب شعرية زاخمة، ذات طابع ملحمي، مسكونة كلها بالفجيعة العربية والدماء النازفة، والصراعات التي لا عنوان سواها للمرحلة.
"فتيان دمشقيون في نزهة" (منشورات المتوسط) للشاعر السوري نوري الجرّاح، مجموعة شعرية في متن المشهد العصيب، تستحضر فوهة الثورة السورية، وتربط الحاضر السوري بفصول الثورات العربية، وبتاريخ المآسي الإنسانية والسير والمرويات الشعبية الخالدة في مختلف الحضارات والثقافات والديانات.
للشاعر نفسه صدرت في السنة الحمراء ذاتها مختارت "ألواح أورفيوس" (دار "الشروق")، متخذة عنوانها من اسم الأديب والموسيقي والبحّار المعروف في الميثولوجيا الإغريقية، ليكون بمثابة وجه رمزي للذات الشعرية في مواجهتها "شفرة النصل" مرّات ومرّات، أملًا في تنسم الحرية بعد سنوات من القهر والنفي والاغتراب فرارًا من الطغيان والاستبداد "دمُ من هذا الذي يجري في قصيدتكَ، أيُّها الشاعر؟/ من بقي هنا، لينزفَ؟/ مَن بقيَ هنا، ليقرأ ما كتب الأفقُ في الصحائف، وما تركَ شاعرٌ في القصيدة؟".
ولا يقتصر سجل الحصاد الشعري على الأعمال الفردية، فثمة أنطولوجيات جماعية مشحونة بالنضال والمقاومة أيضًا، وممسوسة بالحمم المتلظية على الأرض، منها "أنا غزة ابنة فلسطين.. أنطولوجيا شعرية من أجل غزة" (دار "جبرا" للنشر)، التي أعدها الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة، وتتضمن نصوصًا مناصرة لغزة، لأكثر من خمسين شاعرًا وشاعرة حول العالم. وللشاعر نفسه صدر أيضًا ديوان "أقمار افتراضية في ليل يطول"، (دار "جبرا للنشر")، تغنّيًا بالنشيد الفلسطيني الاستثنائي.
ولم يجئ حصاد 2024 الشعري منفصلًا عما قبله، إذ سبقته بأيام قليلة سلسلة من الإصدارات الفردية والجماعية التي أطلقتها شرارة الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة، منها "فلسطينياذا" للشاعر الأردني الفلسطيني علي العامري ("الأهلية" للنشر والتوزيع)، وهو عمل ضخم بالغ الثراء، يستوحي المعطيات الدينية والثقافية والتراثية، ويلامس الإلياذة اليونانية، لرسم ترايجيديا عربية معاصرة. وهناك أيضًا أنطولوجيات وملفات جماعية، منها "ما قالته غزة" (دار "ميريت" للنشر)، و"اسمها فلسطين" (مجلة "إبداع"/ الهيئة المصرية العامة للكتاب)، وأعمال ومختارات أخرى كثيرة تصل بالشعر الحيوي إلى الأسلاك الشائكة، وجبهات البارود والألغام الناطقة.