وجّه الإعلام بوصلته مجدداً إلى جنوب لبنان، تلك البقعة "النائية" والمهمشة طوال فترة طويلة، منذ أيلول/سبتمر الماضي بعدما فرضت الحرب الواسعة نفسها على الواقع اللبناني وباتت تهدد الجميع من دون استثناء، ما أظهر كمية التقصير الذي انتهجته وسائل الإعلام اللبنانية التي بدا وكأنها لفترة طويلة كانت تنطق بحال المنطقة التي تبث منها لا أكثر.
ولأن الاعتبارات تقضي بأن لا أولوية فوق أمن الوطن، ولا يمكن اجتزاؤه على حساب أولويات أخرى كان الإعلام ينشغل بها ضمن الوتيرة اليومية حتى أيلول/سبتمبر، عندما فرضت حرب أيلول نفسها كحدث مصيري كان بمثابة فرصة استثمرها الاعلام اللبناني لإعادة خلق أوراقه فبانت مآلاته وتوجهاته مجدداً واتضحت كضوء الشمس سياسته عن طريق السرديات التي تبناها والقوالب الاعلامية التي اعتمدها في مقاربته للحدث.وكانت أبرز القضايا التي اتخذت حيزاً اعلامياً كبيراً هي الحرب والملفات المرتبطة بها وعلى رأسها: زيارات الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين وتحول الاعلام الى محلل للغة الجسد من أجل التكهن بشأن ما اذا كان الفرج قريباً، وتفجيرات أجهزة "البايجر" واغتيال قادات "حزب الله" بما في ذلك أمينه العام السابق حسن نصرالله، وانذارات الاخلاء من قبل الجيش الاسرائيلي، والدور البطولي الذي أداه فريق "طيران الشرق الأوسط" مع استمرار رحلاتع رغم اشتعال سماء بيروت بالصواريخ الاسرائيلية، والسجال المتعلق باستئناف العام الدراسي أم تعليقه، وقضايا النازحين وتوزيعهم على مدارس الايواء، ووقف اطلاق النار والالتزام بتطبيق القرار1701.وبهذا أعادت الحرب سياسة المحطات وانحيازاتها الى الواجهة لكن الاهتمام الذي صب على هذه الملفات لم يكن بمعزل عن مواقف المؤسسات الاعلامية التي تحولت الى حديث الساعة في وسائل التواصل الاجتماعي، إما في اطار النقد اللاذع أو الإطراء على المواقف "المتبدلة".ومقابل الاندفاع الذي عبرت عنه قناة "الجديد" في تغطيتها للحرب من خلال توسيع رقعة تغطيتها لتشمل مناطق الجنوب والبقاع وأماكن تواجد النازحين، وانحيازها الى "المقاومة" ضمن فترة اشتعال الحرب، برزت "أم تي في" نقيضاً لهذه السياسية التحريرية المنتهجة حتى تحولت المحطة الاعلامية الى موضوع سجالي متكرر بين المتابعين في مواقع التواصل الاجتماعي وهدفاً للاعتداء.أبرز هذه السجالات تمحورت حول خبر ادعاء القناة بانتشار عناصر من "حزب الله" في مراكز الايواء في منطقة الصيفي، وتقريرها عن خدمات "القرض الحسن" وآلية عمله ضمن برنامج "صار الوقت"، حيث تساءل الناشطون عن غاية تلك التقارير وشنوا حملات على الإعلامي مارسيل غانم والقناة، واعتبروا أن القناة تروج لاستهداف المؤسسة، وذلك بعد أيام من اصدار المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، إنذارات بإخلاء مبانٍ تابعة لجمعية مؤسسة "القرض الحسن" التابعة لـ"حزب الله".ولم تمنع جدية الأحداث والانعطافة الأمنية الخطيرة الاعلام من الترويج لبعض التبنؤات الفلكية التي "أصابت" الى حد ما. فكانت تلك التبنؤات بمثابة فواصل ترويجية أمام المشاهد الذي وجد نفسه في حالة قلق من الآتي الذي يدرك حصوله وينتظر تحقيقه بعدما تعامل الاعلام والناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي مع هذه التوقعات على أنها حقائق غير قابلة للشك. إضافة إلى تعقيدات الأحداث لم يبال الاعلام بالدخول في الحرب النفسية والتضليل فدخلها بطلاقة باحثاً عن "الترند".وانشد مراسلو القنوات الاعلامية الى الاتخاذ من الظواهر الاعلامية المستجدة مرجعاً في نشراتهم، كأن يبني الاعلام تحليلاته على توقعات محمد على الحسيني، الذي أفرط في الادلاء عن الاستهدافات الاسرائيلية قبل حصولها، وباتت تصريحاته أشبه بالوشاية والترويج للسيناريوهات الاسرائيلية القادمة، فيما غدت عبارته "اجمع شملك" والتي توجه فيها إلى نصرالله، قبل محاولة اغتياله، رائجة في مواقع التواصل الاجتماعي وانذاراً تبناه الاعلام اللبناني لاحقاً للدلالة على مصداقية المعلومات الاستخبارية التي يملكها الرجل. ولم يتحول الحسيني، المحكوم من قبل القضاء اللبناني بتهمة العمالة، الى نجم الشاشات العربية فقط وانما اللبنانية أيضاً، لكنه لم يحل كضيف عليها نظراً للخصوصية القضائية رغم التعامل معه أقواله كمرجع يقدم تسريبات قيمة، وهي سقطة إعلامية طبعاً.وفي فترة الحرب، كانت الدائرة الاعلامية في الجيش الاسرائيلي تلعب على ايقاع إحداث الفتنة الداخلية التي كان يخشاها اللبنانيون، حيث استغلت الانقسام بين الفئات اللبنانية لتأليب اللبنانيين ودفعهم نحو التقاتل الداخلي وسط بروز أصوات تعتبر أن دخول لبنان في "جبهة إسناد لغزة" هو الذي جلب الدمار للبلاد مقابل فئة أخرى من اللبنانيين ترى أن لا مفر من هذه الحرب للدفاع عن كرامتهم. والجلي أن لهذه الدائرة ماكينة خاصة لمتابعة الخطاب الاعلامي للمؤثرين والمحطات اللبنانية بهدف اغتنام الفرص لدفع الأحقاد بين اللبنانيين.وكان من أبرز هذه الحيل اعادة نشر المحتوى الذي تنشره الشخصيات العامة اللبنانية والفنانيين، كذلك وسائل الاعلام اللبنانية، ما حول شخصيات عامة مثل إليسا وهشام حداد ومارسال غانم إلى إهداف ترمى عليهم تهمة العمالة بشكل اعتباطي.في سياق متصل، فتح الاعلام اللبناني وعلى رأسه قناة "الجديد" هواءه لتغطية الاعتداءات المتكررة على الضاحية الجنوبية، فباتت كل ليلة من ليالي اللبنانين استكمالاً لمسلسل ضرب منازلهم وأرزاقهم بشكل وحشي.ففي بداية الأمر، ومع بروز الإنذارات كوسيلة إخبار للمرة الأولى في الحروب التي واجهها لبنان في العقود الماضية، رغم عدم التزام الجيش الإسرائيلي بها في أحيان كثيرة، كانت المؤسسات الاعلامية تهرع لتثبيت كاميراها على احدى التلال الكاشفة لمحيط الضاحية الجنوبية لتلتقط الحدث مباشرة بعد انتشار الانذارات، حتى بات أمراً بديهياً أن ينقطع البث في الاستديو كل مساء.لاحقاً، باتت الحركة الاعلامية أكثر عفوية وتنبع من جهوزية مسبقة، حيث ظهر المراسلون في كل ليلة بمظهر المتفرج والمنتظر إلى أن تقع الضربة اذا ما نشر الناطق باسم الجيش الاسرائيلي أفيخاي أدرعي صوراً للمباني المشرطة باللون الأحمر والمعرضة للاستهداف.