في العام 1984، أثناء مقابلة في البرنامج الأدبي الأسبوعي "Apostrophes"، أثارت الشاعرة والكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس جدلاً كبيراً بتصريحها الجريء عن أحد رموز الثقافة الفرنسية، جان بول سارتر، حين قالت بكل وضوح: "سارتر ليس كاتباً". لم يكن ذلك مجرد ملاحظة عابرة، بل جاء كتعبيرعن رؤيتها المختلفة للكتابة. وأثر ذلك فيّ عميقاً عندما قرأت عن موقفها، لأنني كنت أعتقد بأن الكتابة هي سارتر، وأنا حينها في السابعة عشرة من عمري.جسدت أعمال سارتر ما وصفته دوراس بـ"الكتابة الأخلاقية"، مقارنةً بما كانت تدعو هي إليه من كتابة "أدبية" أعمق وأكثر تعبيراً عن الذات واللغة، كما هي في أعمال جورج باتاي. هذا التوجه شكل نقطة تحول في رؤيتها للكتابة، حيث انتقل خطابها، سواء المكتوب أو المنطوق، من التركيز على مضمون النصوص، إلى استكشاف طبيعة الكتابة نفسها.
وبعد نشر روايتها "العاشق" (L’Amant) في العام نفسه، بدأت دوراس بالتعبير بشكل أكثر وضوحاً عن تجربتها مع الكتابة لتصفها بأنها أكثر من مجرد عملية إبداعية، لتشبهها بتجربة ميتافيزيقية، لتعيد صياغة سؤال سارتر الشهير: "ما الأدب؟" إلى سؤال أكثر فلسفية: "ما الكتابة؟".لطالما تكرر السؤال في ذهني، بلا ملل أو كلل، خلال الاشهر الماضية: لماذا من الصعب علي أن اكتب؟ لماذا لا أكتب كل ما عشته، خصوصاً خلال أيام حرب اسرائيل، أنا التي شهدت على آلاف القصص وعاشت آلاف المشاعر وعايشت ألف تجربة ونيف؟ لماذا يصبح فعل الكتابة مستحيلاً؟سؤال ربما يراه البعض بسيطاً، لكنه يحمل في طياته افتراضات معقدة وضاغطة. كأن الكتابة تكليف مسبق لمن نشر وكتب. كأن الكتابة مسؤولية اجتماعية، وواجب يتطلب تبريراً دائماً للغياب. وكأن الكتابة سهلة. أقرأ غالباً لبعض الاصدقاء. أحاول تفسير قدرتهم على سرد صفحات من المعاش، والمخزون، والفلسفة.أغار منهم. أفكر أحياناً في الاتصال بهم. لعلهم يفشون لي سرهم الدفين: من أين تأتي الكلمات، تلك التي أطاردها كمن يطادر الهواء وجرعات الماء؟ من أين لهم كل هذا الإسهاب في الشرح، في الطرح، في صف الأحرف؟ أخاف منهم. وأخاف على نفسي من نفسي التي تطلب مني ان أجد ولو كلمة واحدة، أبدأ بها سطراً.أن أجد سطراً واحداً ابدأ معه جملة. أن أجد جملة تخبر شيئاً، أي شيء، عن أي شيء، مني. لكنني أبقى متفرجة، بكثير من اللوعة والصمت. أتفرج على نفسي التي تتوسل الكلمة، تلك التي تسكن أعالي اللاممكن، أن تزورني. وكأنها ليست مني. وكأنها تحشر نفسها لدى الله، هذا الإله الذي تركني كما تركته، لننهي علاقة مرضية، أورثتها لي أمي، وقسيس بغيض بعينين جاحظتين. لأنه "في البدء كانت الكلمة، وهي عند الله".أغمر دوراس. أشعر بأنها تفهمني. ونتفق معاً بأن الكتابة فعل يقترب من المستحيل. إنها مغامرة تبدأ في الفراغ، لا تعتمد على طريق أو مركز أو حتى هدف واضح. " قصة حياتي لا وجود لها. لا وجود لها. لا مركز لها، ولا طريق، ولا خط".يبدو وكأن الكتابة لديها أشبه برحلة في المجهول، حيث تسعى الكلمات لإيجاد موضعها في قلب الصمت، ذلك الصمت الذي تصفه بقولها: " الصمت أصبح لغة". ربما أجد صعوبة في الكتابة لأنني، كما وصفت دوراس، أبحث عن المستحيل. أريد أن أكتب عن الألم، عن الحب، عن الخسارات التي لا يمكن التعبير عنها. أريد أن أكتب عن تجاربي، لكنني أعي أن القصة الحقيقية لا يمكن روايتها بالكامل، لأنها قصة حب يقف "استحالة أن يُكتب".الكتابة هي محاولة لالتقاط ما لا يمكن القبض عليه، تُجبرني على مواجهة فراغي الممتلىء قراءة الممتلىء بكلمات الآخرين. أنا ممتلئة لا تفيض. "لقد تحدثت كثيراً عن الكتابة. لكنني لا أعرف ما هي". هذه الجملة تختصر لربما صراعي الوجودي: فالكتابة تظل مجهولة. وأظل أبحث عن المجهول.أنا التي يراها العالم من ثقب جندرها، ستفهم الكلمة، كفعل الكتابة، من الثقب نفسه. فهي، بمفهومها الدوراسي، فعل نسائي بامتياز. لن يحبني البعض إن تبنيت ذلك. لا أريد لاحد أن يحبني، ولكنني اريد للكلمة أن تأتي الي، شبقة ورطبة."هناك علاقة حميمة وطبيعية تربط المرأة بالصمت ومن ثم بالمعرفة". هذا الصمت الذي وُضع على عاتق النساء لقرون، أصبح لغة، وأصبح مصدراً لكتابة تنبع من أعماق الصدق، ذلك الصدق الذي غالباً ما تفتقر إليه الكتابة الذكورية. تلك اليد التي وضعت لكم افواه النساء، لعصور مضت. تلك اليد التي خنقت الصوت ليخرج الصمت مطالباً أن يكون.لعلني إذا، أبحث عن الصمت. أبحث عن كيفية تحويله، تطويعه، حرقه بالنار علله، كالنحاس، يلتوي سواراً او خلخالاً، او جملة، أرتديها. لعل الصمت الذي اصبح لغة، هو فعل مقاومة من فراغ، مساحة صراع بين ما أريد قوله وما لا يمكنني التعبير عنه.الكتابة ليست محاولة لسرد العالم. بل محاولة لفهم كيف يرفض العالم أن يُسرد. وكل ما عشته، يرفض أن يسرد. كل هذا الالم، وكل هذا الدمار، ينظر الي، بصمته المهيب، ويرفض ان يتحول من أسود، إلى اسود على ورق. وكل ذلك الحب. كل ما أعيشه، كل ما أقرأه وأفكر فيه، يُكتب على جلدي.جلدي اصبح "البرغامينو"، ذلك الجلد الذي استخدمه القدماء للكتابة، جلدي الأبيض السميك الذي بات يحمل تجاعيد وبقع. كل تجربة، كل خسارة، كل فكرة غير مكتملة، تُنقش علي، لكنها تظل هناك، غير قابلة للنقل. "هناك علاقة بين الصمت والمعرفة"، تقول دوراس. وفي ذلك الصمت، أجد صوتي، صوتاً لا يتطلب مني أن أصرح أو أدون. وعليه، كل ما كتبته هنا، هو الاستحالة. أن أكتب الصمت.