يوم الأربعاء الفائت اندلعت مظاهرات في مدينة حمص ومدن أخرى في الساحل السوري، عرّف فيها المتظاهرون أنفسهم بأنهم علويون، وهذه سابقة في سوريا، تسبَّبَ بها انتشار تسجيل تُنتهك فيه حرمة مقام علَويّ في مدينة حلب. تبيّن لاحقاً أن التسجيل ليس بجديد، ويعود إلى ما قبل أسابيع عندما هاجمت هيئة تحرير الشام مدينة حلب وسيطرت عليها، حيث حسب الرواية المنسوبة إلى الهيئة حدثت أعمال قتالية في المقام. صدرت توضيحات أيضاً تنفي أن يكون المقام أصلاً للخصيبي، الذي له مكانة لدى العلَويين، إلا أن هذه التوضيحات لا أهمية راهنة لها، إذ كان الاعتداء على المقام يهدف إلى إهانة العلويين، وكانت الرسالة قد وصلت إليهم هكذا.كان يمكن للمتابع أن يلاحظ أجواء التصعيد التي سبقت مظاهرات يوم الأربعاء، ثم الحملات الأمنية التي تلتها وقامت بها السلطة الجديدة، والتي لا تخلو من انتهاكات في حق المعتقلين يُذكّر بعضها بانتهاكات قوات وشبيحة الأسد في حق الثائرين. بدءاً من الأكثر أهمية، في يوم الأحد 22 كانون الأول/ديسمبر، خاطب المرشد خامنئي السلطة الجديدة في دمشق قائلاً: "لم تكن هناك قوة إسرائيلية ضدكم في سوريا، التقدم بضعة كيلومترات ليس انتصاراً، لم يكن هناك عائق أمامكم وهذا ليس انتصاراً. وبطبيعة الحال، فإن شباب سوريا الشجعان سيخرجونكم من هنا بالتأكيد"! وإشارة التعجب من قبلنا، عطفاً على تصويره عدم تصدي إسرائيل تهمةً للسلطة الجديدة، وكأن أخلّت بواجبها في الدفاع عن الأسد.
أضاف خامنئي: "الشاب السوري ليس لديه ما يخسره. جامعته غير آمنة، مدرسته غير آمنة، منزله غير آمن، شارعه غير آمن، حياته كلها غير آمنة. ماذا يفعل؟ يجب أن يقف بقوة وإرادة أمام أولئك الذين خططوا لهذه الفوضى وأولئك الذين نفذوها، وبإذن الله سيتغلب عليهم. مستقبل المنطقة سيكون، بفضل الله، أفضل من حاضرها". ثم تكفّل المتحدث باسم السلطة القضائية في إيران أصغر جهانغير بالتوضيح، فقال: "إن تنبؤات خامنئي حول ظهور الشباب السوري الشريف والقوي الذي سيدحر المحتلين من أرض بلاده، ستتحقق في القريب العاجل". أما وزير الخارجية عباس عراقجي، فهدد قائلاً "إن مَن يعتقدون بتحقيق انتصارات في سوريا عليهم التمهل في الحكم، فالتطورات المستقبلية كثيرة".بدوره، لم يتأخر محمود قماطي، نائب رئيس المجلس السياسي في حزب الله، بالقول: "إننا اليوم أمام خطر صهيوني كان ولا يزال من الجنوب، واليوم استجد علينا خطر من الشرق، فإسرائيل دخلت إلى سوريا، وأصبحت ليست فقط على حدودنا الجنوبية، وإنما أصبحت على حدودنا الشرقية". أقوال قماطي، يوم الاثنين الفائت، تعيد إلى الأذهان عهد تدخل الحزب في سوريا، تحت يافطة التصدي للمؤامرة الإسرائيلية، ولم يمضِ بعدُ زمن كافٍ ليتقادم قول ماكينة الحزب الإعلامية أن طريق القدس يمرّ في مدن وبلدات سورية تنشط فيها آلة القتل التابعة له.محلياً، بعد تصريحات المرشد، أصدرت مجموعة في حمص تزعم النطق باسم العلويين بياناً صيغ بلغة مستفزة، سارع كثر من المنحدرين من المذهب العلوي إلى التبرؤ منه. وكان لافتاً حجم ضخّ المعلومات المفبركة بأكملها أو تحريف ما هو موجود، بهدف تأجيج الموضوع الطائفي، والتحضير لإشعاله. يمكن، على سبيل المثال لا غير، العودة إلى موقع منصة "تأكد" التي فنّدت العديد من الأخبار والتسجيلات المتداولة، وهي منصة للتدقيق ومحاربة التضليل وحائزة على اعتماد شبكة ميتا الدولية.
بالتأكيد لم تكن الصورة وردية وزاهية تماماً، فهناك ممارسات لعناصر من السلطة الجديدة لا يجوز القبول بها، ولا شك في أنها انتقصت أولاً من السمعة الطيبة التي نالتها بالحرص الذي أبدته في الأيام الأولى على السلم الأهلي. ويجوز القول أن هناك حالة فلتان، جزء منها مفهوم على أرضية المرحلة الانتقالية، وجزء منها ينبغي تداركه بما يحفظ السلم الأهلي، ويصون حقوق الجميع.من ضمن حالة الفلتان، يجب عدم نسيان شبيحة الأسد المخلوع وكبار المجرمين في قواته، فقسم كبير من هؤلاء لم يُتح له الهروب إلى الخارج، ومن مصلحته إثارة الفوضى لأسباب شخصية أدنى من أن تحمل طموحاً سياسياً. أما الأسد نفسه، فمن الصعب الظن بأنه يعمل على لمّ شمل شبيحته السابقين وتشغيلهم من أجل العودة، فهو قد فقد ثقتهم بتخلّيه عنهم والتسلل خلسة من البلاد. وحتى موسكو التي قبلت به لاجئاً لا تبدو عازمة على إثارة القلاقل في سوريا، والإشارات المتبادلة بينها وبين الشرع توحي بأن العلاقة بينهما على ما يرام، بل صرّح لافروف قبل يومين بوجود تواصل بين بلاده والقيادة الجديدة، مشدداً على دعم بلاده تصريحات القائد العام للإدارة السياسية الجديدة أحمد الشرع، والتي قال فيها إن العلاقة بين روسيا وسوريا قديمة واستراتيجية.
إجمالاً، لا نتحدث في إطار التكهنات، فالوقائع العلنية المذكورة السابقة كافية للإشارة إلى الجهة الوحيدة القادرة حالياً على إشاعة الفوضى في سوريا، وهي القوة التي كان إلى ما قبل شهر من الآن يُشار إليها بوصفها القوة الأكثر سيطرة على سوريا من الأسد نفسه. واليوم ليس من الحصافة إطلاقاً اعتبار ما حدث في سوريا هزيمة نهائية للمشروع الإيراني، وأن طهران ستستسلم وترضخ للأمر الواقع بسهولة. بل من الواجب التفكير مليّاً، وتقصّي ما إذا كانت القيادة الإيرانية قادرة على ابتلاع الهزيمة، ثم على مواجهة ارتداداتها الداخلية.كنا قد تجاوزنا ما نُقِل عن أوساط القيادة الجديدة، يوم الأربعاء الفائت، من أنها تعمل على إعداد مذكرة ستقدّمها للمحاكم الدولية، تتضمن مطالبة إيران بدفع 300 مليار دولار، على هيئة تعويضات للشعب والدولة السورية. وهذا مثال ليس الأهم على فخاخ الماضي، فسوريا الجديدة، بصرف النظر عمّن يحكمها، منهكة إلى حد لا تستطيع فيه دفع الديون الإيرانية، وهي حسب الأرقام المتداولة تزيد عن 50 مليار دولار، من دون احتساب كلفة الحرس الثوري وميليشياته التي كانت تنشط في سوريا.
فعندما نتحدث عن ارتدادات الهزيمة، يكون الحديث عن الأسئلة التي لا بد أن تُطرح في إيران عن مصير وعائدات الثروات التي أُنفقت في الخارج، وكان إنفاقها يُغطّى بالتبجّح بسيطرة إيران على أربع عواصم عربية. الرقم لا يتضاعف لمرة واحدة فقط، إذا أضفنا إليه ما أنفقته طهران على الحزب، عسكرياً ومدنياً، منذ تأسيسه حتى الآن. أي أن الحديث هو عن مبلغ فلكي، كان يمكن سابقاً إسكات الإيرانيين المعارضين لإنفاقه بالقمع وبدعاوى التوسع والهيمنة الإيرانية، وفداحة المبلغ تزداد مع تدهور الأوضاع المعيشية في إيران، ما يجعل المساءلة عن تلك الأموال المهدورة واردةً في الأمد القريب، المساءلة التي من المؤكد أنها ستجرّ وراءها مساءلات عديدة من طبيعة سياسية وأيديولوجية.اليوم هناك استحقاق انتخاب رئيس في لبنان، ولا تستطيع طهران تقديم تنازل يُفهم على أنه تكريس لهزيمتها في سوريا ولبنان، ولا يُستبعد أن تسعى إلى تفجير الأوضاع في سوريا كرسالة من أجل تحسين موقعها التفاوضي على الرئيس اللبناني المقبل، وكان مثيراً للانتباه قبل أيام أن تُظهر جريدة الحزب مرشّحاً للرئاسة بوصفه مرشّحاً للشرع وأميركا، مذكّرة بأيام تعيين الرئيس العتيد من قبل الأسد! لعلّ هذا، كمثال تفصيلي ليس إلا، يوضّح تعقيد الورطة الإيرانية وحساباتها التي لا يجوز اختزالها بالظن أن طهران تلقت هزيمة بالضربة القاضية، وقُضي الأمر وانتهى. فحتى إذا كان من المستحيل على طهران استعادة نفوذها الآفل مع هروب الأسد، فإن قدرتها على إحداث الفوضى شأن آخر، والفائدة من ذلك هي داخلية. إذ يمكن بناء على هذا السلوك القول إن طهران لم تنهزم بعد، وإن أعوانها صامدون هنا وهناك ويتصدون كالمعتاد للصهيونية وقوى الاستكبار... إلخ.
على سبيل التأكيد مرة أخرى، ما سبق مبني على الوقائع والتصريحات، وعلى المنطق السياسي أيضاً، ونرجو أن يكون مدخلاً للتفكير في المأزق الإيراني وتبعاته، وإمكانية احتوائه دبلوماسياً، وليس على شاكلة الترويج لنظريات المؤامرة التي هي من اختصاص المحور الآفل. لكن يبقى المحكّ الأكبر في عدم التشبّه بأصحاب نظرية المؤامرة إياها لدى السلطة الجديدة في دمشق، فهي الأقدر، رغم حداثة وجودها، على إعطاء ضمانات حقيقية للمتخوّفين من ظلم طائفي. والصورة الرائجة عن السلطة ذاتها تجعلها في أفضل موقع لتقديم الضمانات، لأن الأخيرة لها مصداقية أكبر بصدورها عن الأكثر راديكالية، إلى حين الانتهاء من هذه المرحلة وتكريس دولة المواطنة.
أيضاً من الضروري تذكّر دأب الأسد على استغلال المؤامرة المزعومة من أجل قمع الداخل، وهذا درس طازج جداً يشير إلى أن مواجهة الأخطار الخارجية (الحقيقية هذه المرة) تكون عبر تحصين الداخل بالسلم الأهلي وبالحريات. المستقبل القريب حافل بالتحديات الصعبة، ونقصد بالمستقبل الأسابيع القليلة المقبلة التي تتطلب الكثير الكثير مما ليس أسدياً. إنها مهمة شاقة، لكنها ليست مستحيلة.