تدل التطورات الأخيرة لعملية الاحتلال العسكرية المتواصلة في شمال قطاع غزة، منذ أكثر من 83 يوماً، على أنها دخلت مرحلة جديدة بعد تحويل مناطقه إلى شبه خالية من السكان، جراء إجبار أعداد كبيرة منهم، تحت النار، على النزوح جنوباً باتجاه مدينة غزة، في الأسابيع الماضية.
مسح كامل
وأفاد مصدر من شمال القطاع لـ"المدن"، أن حصيلة الاقتحام الثالث لجباليا ومناطق أخرى شمال القطاع منذ بدء الحرب على غزة، أظهرت أن الاحتلال يعتمد عملية مسح كامل للأبنية والمنازل والبنى التحتية وكافة مقومات الصمود في المنطقة.
ووفق المصدر، شرع الاحتلال في الأيام الأخيرة بمرحلة التدمير الشامل، أي بنسبة "100 بالمئة"، لما تبقى من أبنية في المنطقة الشمالية للقطاع. وقد ترجم الاحتلال هذه المنهجية باقتحام مستشفى كمال عدوان وحرق كافة أقسامه أمس الجمعة، بهدف إيقاف الخدمة الطبية في شمال القطاع بشكل نهائي، وتسريع حسمه خطته، لجعلها سقفاً لمستقبل القطاع بعد الحرب.
وبعد مرور نحو 12 أسبوعاً على العملية الإسرائيلية، باتت تتكشف ملامح مخطط الاحتلال يوماً بعد آخر، رغم ضبابيته وتضليله بشأن الخطة الحقيقية المتبعة، والتي يتجاوز هدفها مجرد ممارسة ضغط عسكري على حماس، إلى خلق واقع جيوسياسي وديموغرافي جديد.
أكثر من خطة
وفي حين تحدثت تقارير عبرية عن أن الجيش الإسرائيلي يطبق صيغة معدّلة لخطة "الجنرالات"، رصدت "المدن" إفادة للمراسل العسكرية لتلفزيون "مكان" العبري، إيال عاليما، أشار فيها إلى أن الجيش الإسرائيلي ينفذ في شمال القطاع أكثر من خطة، وعلى نحو مغايِر لـ"خطة الجنرالات"، بحيث تهدف في جوهرها إلى تحقيق ما ألمح إليه وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس أخيراً، وهو تشكيل مسافة جغرافية واسعة تفصل بين "التجمعات السكانية" الإسرائيلية وقطاع غزة، وهو ما يعني سيطرة عسكرية تضمن خلق مساحة شاسعة في شمال القطاع من دون سكان، لتشكيل ما تسميها الأروقة العسكرية الإسرائيلية منطقة "حماية ودفاع" كبيرة.
وأكد شهود عيان من شمال القطاع لـ"المدن"، أن ما يجري هناك "أسوأ" من خطة الجنرالات؛ لأن الأمر لم يقتصر على تفريغ الشمال من السكان، بل مسح كامل لكل ما هو على الأرض من بناء ومقومات حياة.
"منطقة دفاع" في غزة ولبنان.. وسوريا
والحال أنّ الدوائر العسكرية والسياسية الإسرائيلية تبنت نهجا جديداً بعد هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، يقوم على أساس عدم ركون أمنها على إقامة مناطق عازلة صغيرة، أو جدران أمنية، بل "فرض" منطقة "دفاع" كبيرة على امتداد حدوها، تحت ذريعة "الاستفادة من دروس هجوم حماس على الغلاف". وهذا ما يسعى الاحتلال إلى تحقيقه في القطاع عبر عدوانه المستمر ، وأيضاً في لبنان من خلال اتفاق وقف إطلاق النار المتزامن مع عمليات عسكرية مستمرة في جنوب لبنان، وكذلك في سوريا عبر احتلال قمة جبل الشيخ والتوغل في قرى الجنوب السوري. وهذا يعني أنّ إسرائيل تحولت استراتيجياً من الاعتماد على "الجدار الأمني" إلى فرض "المنطقة الأمنية الكبيرة".
تكتيك "الدائم".. و"المؤقت"
ومع انعدام الأرقام الدقيقة، قدرت مصادر محلية لـ"المدن"، أن يكون قد تبقى نحو 30 ألفاً فقط من سكان جباليا ومشروع بيت لاهيا وبيت لاهيا وبيت حانون، بعد نزوح 40 ألفاً خلال الاجتياح الثالث.
وبحسب مصدر سياسي مطلع على مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، فإن إسرائيل أصرت خلال جولة المفاوضات الأخيرة، على عودة النازحين إلى مدينة غزة، وليس المناطق الواقعة شمالها، وهو ما يعطي دلائل أخرى على أن عملية الشمال هدفها فرض وقائع استراتيجية دائمة، وليست مجرد خطوات مؤقتة، أو ملاحقة خلايا حماس وبناها التحتية.
وإلى الجنوب من القطاع، حيث مدينة رفح، قال سكان من المنطقة لـ"المدن"، إن الاحتلال يحاول فرض وقائع جديدة على الأرض، إذ رصدوا فيام شركات هندسية إسرائيلية بمهمات متعلقة ببناء لوجستيات تمكن القوات الإسرائيلية من البقاء في مخيم الشابورة، أي عمق رفح بشكل دائم، وليس فقط في محور فيلادلفيا الحدودي مع مصر.
طريق جديد.. لإحكام فصل القطاع
وبالنسبة لوسط القطاع، فإن الجيش الإسرائيلي يستكمل خلال هذه الأيام إنشاء طريق جديد يصل مستوطنة "بئيري" بساحل القطاع، بحيث يمر عبر معبر نتساريم، وهي خطوة وضعها مراسلون عسكريون في سياق إحكام فصل القطاع إلى قسمين، وترسيخ منطقة عازلة على امتداد الحدود الشرقية للقطاع.
ووفق مصادر "المدن"، حددت تل أبيب مسافة الانسحاب من منطقة نتساريم بموجب أي صفقة جزئية محتملة، بواقع كيلومتر واحد فقط بخطوط العرض، أي من شارع الرشيد، مع بقاء القوات في شارع صلاح الدينـ، وهذا يعني أن مفهوم إسرائيل للانسحاب ليس أكثر من إعادة تموضع قائم على تقسيم مناطق القطاع، بين وجود مؤقت لقواتها، وأخرى ستبقى فيها لمدة طويلة، إن لم يكن إلى الأبد!