قالت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إن الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، ألغى في اللحظة الآخيرة، لقاءً كان مقرراً برئيس الموساد السابق يوسي كوهين، في موسكو عام 2019، لإبرام صفقة سرية، يوقف بموجبها الأسد نقل الأسلحة إلى حزب الله في لبنان، مقابل رفع العقوبات."موسى"
وخرجت إلى العلن بعد سقوط نظام الأسد، رسائل موجهة من إسرائيل إلى سوريا، كان مرسلها يدعى "موسى". لكن، بحسب "يديعوت أحرونوت"، "موسى" ليس شخصاً في هذه الحالة، هو عدة أشخاص، يشكّلون معاً فريقاً في إحدى وحدات شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، حرصوا على التواصل مع المسؤولين السوريين في نظام الأسد على مر سنوات، وإطلاعه على تطورات، من خلال مجموعة على تطبيق "واتساب"، استخدمت أيضاً لغة التهديد والترغيب، ورتبوا للقاء بين الأسد وكوهين، من أجل صفقة سرية، قبل أن يلغيه الأسد.
وأشارت الصحيفة اليوم الجمعة، إلى قيام إسرائيل بممارسة أنشطة سرية لإنشاء قناة اتصال مع الأسد ومحيطه، وأن رسائل "موسى" وصلت إلى القيادة في دمشق. كما كانت عمليات أخرى تهدف إلى إبرام صفقة سرية، حيث يوقف الأسد نقل الأسلحة إلى حزب الله في لبنان مقابل رفع العقوبات. وكان من المفترض أن يلتقي كوهين في الكرملين، ولكن بعد ذلك انهار كل شيء في سوريا.
لم يكن "موسى" بحاجة إلى شرح من هو، وفقاً لتقرير الصحيفة العبرية الذي ترجمه موقع "العربي الجديد"، ذلك أن وزير الدفاع في النظام السوري علي محمود عباس، الذي وُجهت إليه الرسالة، يعرف جيداً المرسِل حتى لو لم يعرف اسم الكاتب. وهذه لم تكن الرسالة الأولى التي يرسلها الفريق الإسرائيلي إليه.
بعد كل هجوم إسرائيلي تقريباً في سوريا، كان "فريق موسى" يرسل إلى الوزير السوري شرحاً دقيقاً ومفصلاً عبر واتساب حول الهجوم الذي نفذه جيش الاحتلال. وتنقل الصحيفة عن مصادر أن الأمر تحوّل إلى "علاقة طويلة الأمد. كان موسى يرسل الرسائل، والمخابرات العسكرية السورية ترفعها من واتساب وتحولها إلى رسالة سرية للغاية وعاجلة، تُوزع على عدة مسؤولين كبار، منهم علي مملوك، مستشار الأمن القومي ونائب الرئيس السوري للشؤون الأمنية".
أهداف الرسائل
كانت رسائل الواتساب من "موسى" ستظل سرية تماماً، وفق تحقيق "يديعوت أحرونوت"، لولا أن قوات "المتمردين" (الوصف الإسرائيلي لفصائل المعارضة السورية التي أطاحت نظام الأسد)، استولت قبل حوالي أسبوعين على مقر المخابرات حيث كانت تُحفظ نسخ من هذه الرسائل. نشر "المتمردون"، وفق التوصيف الإسرائيلي، هذه الرسائل على الانترنت، وفسروها على نحو خاطئ، وكأنها تعاون روسي-إسرائيلي ضد الأسد. هذا بالطبع غير صحيح، تزعم الصحيفة، لأن "موسى"، كما ذكر، هو الاسم المستعار لفريق في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، وكان ثمة هدف لرسائل الواتساب.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول أمني كبير مطلع على العملية المذكورة، أن "الدافع وراء هذه الرسائل، تضمن عدة أهداف". "أولاً، أردنا أن نظهر لكبار مسؤولي نظام الأسد أنه ليست لدينا مشكلة في الوصول إلى هواتفهم المحمولة وكتابة نصوص بسيطة وواضحة لهم، وإذا لزم الأمر، حتى نصوص صارمة. ثانياً والأهم، أردنا أن نظهر لهم مدى عريهم، وأنه ليست لديهم أي فرصة لإخفاء أي شيء عنا، بغض النظر عن عدد الحيل التي سيحاولونها... ثالثاً، أردنا أن نشرح لهم أن العمليات التي قمنا بها لم تكن عشوائية، بل كانت شيئاً دقيقاً وحاداً. ورابعاً، لتهديدهم بأنه إذا استمر هذا، فسنواصل ضرب الشحنات والأشخاص الذين بجانبها". وتابع: "الخلاصة كانت الإظهار لنظام الأسد ورئيسه أن العلاقة مع إيران وحزب الله، حتى لو كانت مفيدة له في الماضي، تحوّلت من ميزة إلى عبء، وأنه إذا فكر في مكاسبه وخسائره.. فسيصل إلى استنتاج أنه مع مرور الوقت، يكسب أقل ويتضرر أكثر".
حول ما إذا كان نظام الأسد قد استوعب الرسائل، قال المسؤول الإسرائيلي: "أولاً، رأينا بوضوح أنه تم استيعابها ونقلها. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك سلسلة من الأحداث التكتيكية التي من خلالها يمكننا رؤية التأثير. على سبيل المثال، بعد التحذير، جرى إغلاق مستودع معيّن أو توقفت رحلات جوية على خط معيّن".أكثر من قناة اتصال
وكشف المسؤول الكبير أيضاً أن رسائل الواتساب من "موسى" لم تكن الاتصال الوحيد الذي حاولت إسرائيل إنشاءه مع دمشق، فقد "كانت هناك أيضاً جهوداً عبر قنوات سرية أخرى للوصول إلى الأسد. وليس فقط إسرائيل، بل أنشأت الولايات المتحدة أيضاً مسارين سريين: أحدهما عبر أبوظبي وعلاقة رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد، مع الأسد، والآخر عبر سلطنة عُمان. كانت الفكرة هي: ما الذي يمكن أن يغري الأسد ليقرر التخلي عن محور المقاومة، وعدم السماح بعد الآن بمرور الأسلحة عبر سوريا إلى لبنان. لكن في النهاية، وحتى نهاية الأسد نفسه، لم يقتنع. وربما كان من الجيد أننا لم نراهن عليه ليكون عاملاً يمكننا الاعتماد عليه في بناء مفهوم الأمن الجديد في المنطقة".
كان التقييم الإسرائيلي أنه لا يمكن تحويل الأسد بالكامل من جانب إلى آخر. ويقول المسؤول الإسرائيلي في هذا الجانب: "لقد قضيت سنوات عديدة من حياتي في دراسة النظام السوري وشخصية الأسد الأب، وبعد ذلك الابن. بشار هو من أكثر الشخصيات الماكرة، والكاذبة، والمتلاعبة، والأنانية، والخالية من أي شعور واهتمام بمن وما لا يخدمه هو وعائلته، وتجسيد للميكافيلية، ولا تدع مظهره المتردد يخدعك. كنا نأمل في بعض التحرك لتقليل شحنات الأسلحة وتقليل المشاركة العسكرية السورية المباشرة في الصراع معنا. لا أكثر".
ومما يشير إلى أن ثمة تحوّلاً ربما حدث فعلاً في موقف الأسد، إشارة المسؤول للصحيفة إلى أنه "منذ هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر على إسرائيل، ومع تدهور المنطقة نحو حرب إقليمية، رفض الأسد بشدة المشاركة فيها وحرص على ألا يعمل حزب الله من هضبة الجولان. في الأشهر الستة الماضية، كان مستعداً لتحمل المزيد والمزيد من العمليات التي قمنا بها في أراضيه ضد إيران وحزب الله، وأحياناً ضد قواته أيضاً، من القصف المتزايد إلى الأنشطة الأخرى في بلاده".
صفقة سرية
وكشفت الصحيفة عن سلسلة محاولات إسرائيلية لبناء علاقة وإحداث تأثير مع النظام في دمشق، بما في ذلك الأسد نفسه. بالإضافة إلى رسائل واتساب، التي يمكن الافتراض أنها وصلت إلى مكتب الأسد، حاولت إسرائيل نسج صفقة مع رئيس النظام السوري المخلوع بطرق معقّدة، لإخراجه من "محور الشر"، بحيث يتوقف الأسد عن السماح بمرور الأسلحة عبر سوريا، ويحدّ من نشاط حزب الله والإيرانيين في بلاده، وفي المقابل يحصل على تخفيف العقوبات وتجديد شرعيته في نظر دول العالم.
الرسائل التي أُرسلت عبر واتساب، والمحاولات للوصول إلى صفقة سرية مع بشار الأسد التي كشفت الصحيفة عنها هنا، تستند إلى جهد استخباري طويل الأمد تديره إسرائيل في سوريا. الوحدة في شعبة الأبحاث التابعة للاستخبارات العسكرية التي كانت تعمل على تحليل سوريا ونظام الأسد الأب والابن كانت تُدعى بالعبرية "زيتساف"، وهي اختصار لـ"الجبهة الشمالية"، وهي وحدة تخرّج منها العديد من رؤساء المخابرات الإسرائيلية، وحُلَّت لاحقاً.
ومن المعلومات الاستخبارية التي جُمعت عن سورية ولدت أيضاً فكرة محاولة إبرام صفقة مع الأسد. وتقول الصحيفة إنه عندما طرحت خطط الصفقة لأول مرة في مكان ما في عام 2019، ربما بدت أكثر كهلوسة، ولكن في 7 تشرين الأول 2023، أصبحت أكثر واقعية بكثير.
ونقلت عن مستشار استراتيجي لإحدى وحدات الاستخبارات العسكرية قوله إنه منذ انضمام حزب الله إلى الحرب، كان الجيش الإسرائيلي مقتنعاً بأنه يمكنه توجيه ضربة قاضية له "بسلسلة من العمليات الاستباقية، التي ستسقط عليه.. وتحرمه من معظم قدراته، وتدمر قيادته وتحوّله إلى ظل لنفسه". بالإضافة إلى ذلك، قدّر جيش الاحتلال أنه يمكنه أيضاً ضرب إيران. واعتقد مسؤولون في المؤسسة الأمنية أنه من دون هذين العضوين الرئيسيين في "محور المقاومة"، يمكن أن تقدّم إسرائيل للأسد عرضاً لا يمكنه رفضه: الانضمام إلى الغرب وطرد الإيرانيين وحزب الله من بلاده، مقابل إعادة الشرعية الدولية، وضمانات من الولايات المتحدة لاستمرار حكمه من دون عوائق".
بين "أسدين".. الأب والابن
وبحسب الصحيفة، "يُسمح الآن بالكشف عما عرفته المخابرات الإسرائيلية وأضاء لها أضواء حمراء (تحذيرية) كثيرة في ذلك الوقت. في عام 1991، انضمت سوريا إلى التحالف الذي حارب ضد العراق. عندما عاد رئيس الأركان السوري (في حينه) حكمت الشهابي من المعارك في الكويت، تحدّث عن القدرات الأميركية المذهلة، سواء في الجو أو في الأسلحة الدقيقة أو في القيادة والسيطرة. عندما سمع حافظ الأسد هذه التقارير، توصّل إلى استنتاج أنه إذا كانت هذه القدرات موجودة لدى الولايات المتحدة، فهي موجودة بالتأكيد لدى إسرائيل. لذلك، لا فرصة لقواته البرية أو الجوية في مواجهة الصهاينة، ويجب على سوريت تغيير الاتجاه. أمر بتقليل الاستثمار في القوات البرية والجوية، وزيادة إنتاج الصواريخ والأسلحة غير التقليدية".
"منذ ذلك الحين، تحول تركيزنا نحو SSRC، مصانع الأسلحة السورية الموازية لمصانع رفائيل (الإسرائيلية)"، يقول أحد رؤساء شعبة الاستخبارات العسكرية السابقين، مضيفاً "بنى السوريون مخزوناً كبيراً من صواريخ سكود، إلى جانب كميات هائلة من الأسلحة الكيماوية... والموساد تبعهم في جميع أنحاء العالم".
وعندما تولّى بشار السلطة، كانت هناك آمال إسرائيلية في "أنه وزوجته، اللذين تلقيا تعليمهما في لندن وربما تأثرا بالثقافة الغربية، سيغيران هذا الاتجاه. صواريخ أقل وديمقراطية وتقدّم أكبر. تحطّمت هذه الآمال بسرعة كبيرة. دخلت إيران الصورة، وبدأ قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، في تحقيق رؤيته لحلقة النار، وتطويق إسرائيل بقوات عسكرية تابعة لطهران. أصبحت سوريا جزءاً مركزياً من هذا المحور. وركزت المخابرات الإسرائيلية جزءاً كبيراً من جهودها في دمشق".
ويضيف مسؤول إسرائيلي خدم في عدة مناصب في شعبة الاستخبارات العسكرية والموساد، إن الروس، الذين ساعدوا الأسد في قمع الثورة، زودوه أيضاً بأنظمة دفاع جوي متقدمة للغاية، وجهّزوا سلاحه الجوي بطائرات "ميغ" و"سوخوي" حديثة، فضلاً عن وجودهم في سوريا، "جعلوا النشاط الجوي الإسرائيلي في سماء سوريا ولبنان أكثر صعوبة وخطورة... ثم ظهرت فكرة استخدام الحيلة بدلاً من القوة، ومحاولة إخراج الأسد من المحور من خلال نوع من الصفقة السرية. كان من الواضح أنه إذا أخرجت سوريا من المعادلة، فلا توجد طريقة لنقل الدعم أو الأسلحة، ولا توجد مقار، ولا توجد جبهة أخرى مع إسرائيل في هضبة الجولان".
تحديد اجتماع بين الأسد وكوهين
جُنّدت الولايات المتحدة أيضاً لجهد التوصل الى تسوية بين إسرائيل والأسد، وكانت الرسالة التي نُقلت إلى الأسد واضحة، وفقاً لمصادر الصحيفة، "أخرج من المحور، وستحصل على تخفيف كبير في العقوبات وشرعية دولية، رغم جرائم الحرب ضد شعبك"، مضيفة "هذا الأسبوع، نكشف أن إحدى ذروات هذا الجهد كانت في نهاية عام 2019، عندما حُدّد اجتماع شخصي بين يوسي كوهين، رئيس الموساد آنذاك، والأسد في الكرملين بموسكو بوساطة الرئيس فلاديمير بوتين. ألغى الأسد مشاركته في اللحظة الأخيرة".