بعد حوالى عشرين عاماً من اعتقاله لثلاثة سنوات بين العامين 2002 و2005 في "سجن صيدنايا العسكري"، خرج الممثل السوري مهند قطيش عن صمته وتحدث بالتفصيل عن تجربته القاسية مع الاعتقال في مقابلة مع قناة "المشهد" المصرية، في وقت يغيب فيه الفنانون المعارضون عن معظم الشاشات العربية، التي تفضل استضافة ممثلين كانوا داعمين لنظام الأسد ولمعوا صورته، بدلاً من تقديم القصص الصحافية الحقيقية التي تستحق تسليط الضوء عليها اليوم، كقصة قطيش.
وكشف قطيش أن السبب الحقيقي لاعتقاله كان مقالات صحافية كتبها وانتقد فيها نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام، حينها. كما كتب قطيش مقالات تحت اسم مستعار تناول فيها مسائل حساسة، مثل حياة مجد الأسد، شقيق الرئيس المخلوع بشار الأسد. وأوضح قطيش أن النظام عمد إلى تسريب شائعات كاذبة تدعي أنه يعمل جاسوساً لإسرائيل لتبرير اعتقاله أمام الرأي العام، وهي شائعة انتشرت حينها بشدة بين السوريين، بشكل يظهر كيف كانت المخابرات والأجهزة الأمنية تعمل على التحكم بالرواية، حتى على الصعيد الشفهي، لأن قصته حينها لم تنشر حتى في وسائل الإعلام الرسمية، مثلاً.
لم يعرف قطيش بهذه التهمة الملفقة إلا بعد تحويله إلى "سجن صيدنايا"، حيث أخبره السجناء هناك عنها. وكان هدف النظام من تسريب وترويج تلك الشائعات منع أي تعاطف شعبي مع قطيش، بالإضافة إلى محو اسمه وتدمير مسيرته المهنية بشكل كامل، بالتوازي مع تقديم النظام لبطشه الأمني كأسطورة شفهية تخلق الرعب من دون وجود حتى إثبات بشأنها.وأوضح قطيش أنه مع تولي بشار الأسد السلطة العام 2000 ووعوده بالإصلاح، صدق مع زملاء له أن زمن الحريات قد أتى. لكنهم صُدموا بأن التغيير اقتصر على الشكل الخارجي لرجال الأمن الذين بدوا أكثر أناقة، بينما أصبحوا أكثر قسوة وعنفاً، في إشارة للانفتاح النسبي الذي حاول النظام بعد وفاة حافظ الأسد تقديمه، وإتاحة المجال للإعلام الخاص بالعمل، وغيرها من الوعود التي قدمها بشار في خطاب القسم ووعوده للمجتمع الدولي، التي تبددت كلها في غضون أشهر قليلة، مع القمع الذي طال المثقفين والحريات، فيما أطلق يد الجهاديين والإسلاميين حينها وسمح بحرية تنقلهم إلى العراق لـ"الجهاد" هناك، مع خوفه من أن يكون التالي على لائحة الطغاة الذين تريد واشنطن إسقاطهم في الشرق الأوسط بعد زميله في الدكتاتورية صدام حسين.وقصة قطيش محزنة فعلاً، ويمكن تلمس القهر والانكسار في صوته المرتجف خلال اللقاء وعيونه التي تخلو من الحياة، مع تذكره تفاصيلاً مروعة عاشها طوال 33 يوماً في فرع المخابرات، حيث وصف التعذيب الوحشي الذي تعرض له، موضحاً أن التحقيق كان يتم على يد أربعة ضباط، كانوا يتناوبون في سؤاله في الوقت الذي يقوم السجان بعد تلقي الأوامر منهم بتعذيبه. وأشار إلى الأساليب اللاإنسانية في التعذيب وذكرياته عن تعذيب المعتقلين الآخرين الذين كانوا يجبرون على الركض في بهو السجن لمنع احتباس السوائل في أرجلهم بسبب الضرب الشديد، لأن النظام لم يكن يريد أن يقتلهم بل كان يريد فقط إطالة أمد التعذيب الوحشي بحقهم لأقصى فترة ممكنة، قبل تحويلهم إلى المحاكم العسكرية التي تقضي بإحالتهم إلى السجون سيئة السمعة حيث يصبح التعذيب هناك ممنهجاً أيضاً.وتحدث قطيش عن الخوف الشديد الذي كان يشعر به عند سماع أصوات السجناء يتعرضون للتعذيب، وروى كيف تم استجوابه من قبل العميد أنور رسلان المدان في ألمانيا بالسجن المؤبد بسبب جرائم التعذيب وجرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، في فرع أمن الدولة، حيث كان يناديه باسم "سلمة"، وهو اسم شخصية سلبية، أداها قطيش في مسلسل "الزير سالم" التاريخي الشهير.وتحدث الممثل الذي شارك في بطولة مسلسلات نالت شهرة عربية واسعة أواخر التسعينيات ومطلع الألفية، عن كيفية تشويه النظام لسمعته بشكل ممنهج، حتى أصبح الناس يخشون ذكر اسمه، وأوضح أن تحويله إلى "سجن صيدنايا" ومحاكمته أمام محكمة أمن الدولة كانا جزءاً من محاولات النظام لاستخدامه كعبرة لأهالي السويداء التي ينحدر منها، ولغيره من الفنانين أيضاً.وطوال عقود، اشتهر النظام السوري باستخدامه الممنهج للفن والفنانين كوسيلة لتلميع صورته أمام الداخل والخارج. كان الفنانون إما أداة دعاية في يد النظام أو أهدافاً للقمع إذا ما تجرؤوا على الخروج عن النص الرسمي، وكان عليهم تقديم فروض الطاعة في كافة المناسبات الوطنية، بما في ذلك التقاط الصور التذكارية مع الأسد "راعي الفن" والويل لمن يرفض الدعوات التي كانت ترسل إليه للتوجه إلى القصر من أجل لقاء الرئيس المخلوع، مع تحويل المسلسلات إلى أداة ناعمة في يد السلطة، لإيصال الأفكار للشعب وتحديد السردية المطلوب تبنيها في لحظة معينة، أو الإيحاء بوجود مناخ للحريات عبر مسلسلات ناقدة يتم التحكم فيها أصلاً.وكان النظام ماهراً في استغلال الإعلام والفن لتشكيل وعي محدد لدى الجماهير، عبر روايات مضللة، صورت المعارضين أو الناقدين للنظام وأتباعه كخطر على الأمن القومي، وتم ربط النقد بالخيانة. هذا التلاعب لم يعزز فقط ثقافة الصمت والخضوع، بل جعل من القمع أداة مقبولة ضمنياً لدى البعض، بحجة الحفاظ على "الوطن" بوصفه قيمة مقدسة، وهو مفهوم سام ومؤذٍ ولا يتواجد أصلاً في الدول التي تتواجد فيها حقوق المواطنة للجميع، لأن الوطن بالمفهوم الدكتاتوري يفقد معناه ومضمون اسمه ويتحول إلى مزرعة يعيش فيها السادة والعبيد جنباً إلى جنب، لا أكثر، كحال سوريا الأسد تماماً.وتحكم الأسد المخلوع بشكل كامل في كافة مفاصل الإنتاج التلفزيوني، ولم يمر أي عمل درامي أو إنتاج فني من دون موافقة الأجهزة الأمنية، التي كانت تعمل كرقابة مشددة على الممثلين والكتاب، لضمان عدم خروج أي عمل عن سيطرة النظام. وحتى الممثلون الموالون للنظام كانوا يعانون من تلك الرقابة. وحتى الممثل الأول للنظام دريد لحام قال في تصريحات صحافية مؤخراً: "في أحد المسلسلات كتبتُ حواراً بين حمارٍ وإنسان يشكو فيه الحمار من أنه مظلوم ويعمل كثيراً لينال القليل من التبن، فيما الحصان يركض ربع ساعة ويحصل على الدلال والاهتمام"، في إشارة لمسلسل "عودة غوار" الشهير، مضيفاً: "الرقيب منع تلك المقارنة بين الحمار والحصان، مبرراً ذلك بأن باسل الأسد يحب الأحصنة، ولا يجب بالتالي انتقادها"، ما يعطي انطباعاً عن سقف الحريات غير الموجودة أصلاً في البلاد.وعمل النظام على تحويل الفنانين والمثقفين إلى أمثلة لترهيب المجتمع، ولم تكن تجربة قطيش فريدة، بل كانت جزءاً من منظومة أكبر تستهدف إبقاء الجميع تحت السيطرة. كان الهدف هو إرسال رسالة واضحة أن لا أحد بمنأى عن قبضة النظام، حتى أولئك الذين يظهرون على الشاشات ويرسمون الابتسامات على وجوه الناس.وذكر قطيش كيف اتهم النظام شقيقه بتهمة "التمويل"، حيث كان شقيقه يعمل في الإمارات ويدعم عائلته مادياً، كما يفعل كل السوريون الذي يعملون في الخارج، واعتقل في سجن صيدنايا لأربع سنوات. كما أشار قطيش إلى معاناة زوجته التي كانت تبحث عنه من دون جدوى، وكيف تخلى عنه أصدقاؤه خوفاً من التعرض للمصير نفسه. وبعد إطلاق سراحه، استمر النظام في استهداف قطيش عبر منعه من السفر أو الخروج إلى الإعلام. وكان يحظر عليه المشاركة في أي مقابلات أو برامج تلفزيونية تتناول قضيته ومنع من العمل في المجال الفني، وذكر قطيش أن هذا الحصار المهني والاجتماعي كان بمثابة سجن آخر، حيث تم تقويض قدرته على العودة إلى حياته الطبيعية أو متابعة مسيرته الفنية.ولم تكن تجربة قطيش فردية، بل شهدت الساحة الفنية السورية حالات مشابهة لفنانين ومثقفين تم اعتقالهم أو نفيهم بسبب تعبيرهم عن آرائهم، كالمخرج السينمائي محمد ملص الذي تعرض للتضييق والمنع من العمل بسبب مواقفه المعارضة، والفنانة مي سكاف التي أصبحت رمزاً للمقاومة الثقافية واستمرت في التعبير عن آرائها السياسية حتى وفاتها في المنفى، والممثلة سمر كوكش التي اعتقلت بتهمة دعم الإرهاب بسبب تقديم مساعدات إنسانية لأطفال في مناطق المعارضة، وقضت في السجن خمس سنوات قبل أن تخرج لتواجه قيوداً اجتماعية ومهنية فرضها النظام عليها.ومن بين هؤلاء أيضاً الممثل مكسيم خليل الذي اضطر إلى مغادرة سوريا بعد دعمه العلني للثورة السورية، حيث تعرض لحملات تشويه ممنهجة وتهديدات مستمرة. كما تم اعتقال الممثلة ليلى عوض لفترة قصيرة بتهمة "إثارة الشغب" بسبب مشاركتها في مظاهرات سلمية، ما أدى إلى منعها من العمل في المجال الفني داخل سوريا، والممثلة يارا صبري التي وقعت على بيان الحليب، لايصال المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين في مدينة درعا العام 2012 وتعرضت للتهديد ما اضطرها للسفر إلى كندا مع عائلتها.ولم يقتصر الأمر على الفنانين فقط، بل شمل أيضاً شخصيات عامة مثل الكاتب والصحافي ميشيل كيلو الذي نُفي بسبب مواقفه المعارضة للنظام والمعارض والكاتب السوري الراحل لؤي حسين الذي اعتقل بسبب مقاله كتبها، وكانت تهمته "وهن عزيمة الأمة". هذه الأمثلة تعكس حجم القمع الذي استهدف كل من حاول التعبير عن رأي مخالف، سواء كان ذلك من خلال الفن أو النشاط العام.ومن بين أبرز التجارب التي عكست معاناة المعتقلين والمثقفين السوريين في السجون كتاب "القوقعة.. يوميات متلصص" للكاتب مصطفى خليفة، الذي روى تجربته في "سجن تدمر العسكري"، ومنعت الرواية من دخول سوريا، و"بالخلاص يا شباب.. 16 عاماً في السجون السورية" لياسين الحاج صالح الذي وثق فيه معاناته كسجين سياسي، هي اعمال تعتبر جزءاً من أدب السجون السوري، الذي حاول تقديم شهادات صادقة عن وحشية النظام.ولعل قصة قطيش توضح كيف أن قمع النظام لم يكن طارئاً بعد العام 2011 كرد على الثورة السورية كما يتخيل البعض، بل هو قمع طويل ويعود إلى سبعينيات القرن الماضي وسيطرة عائلة الأسد على السلطة في انقلاب عسكري، ويمكن تذكر قصة الممثل عبد الحكيم قطيفان الذي اعتقله نظام الأسد الأب العام 1983 لمدة 9 سنوات قضاها في سجن صيدنايا المركزي أيضاً.والحال أن القمع الممنهج للفنانين لم يؤثر فقط على حياتهم الشخصية، بل ترك أثراًعميقاً على المشهد الثقافي السوري، وأصبحت الدراما السورية أداة دعائية للنظام، خالية من التنوع والإبداع، مع تركيزها على تمجيد القيادة وتصوير المعارضة كخطر يهدد البلاد. وكان الفنانون يعملون تحت رقابة مشددة تُفرض على النصوص والإنتاج، ما حد من قدرة الدراما على التعبير عن الواقع السوري أو تناول قضايا اجتماعية وسياسية بحرية، مهما حاول فنانو البلاد تقديم مسلسلاتهم الخاصة على أنها "مرآة للواقع" و"منتج ثقافي فريد من نوعه في المحيط العربي".وأصبحت الأعمال التاريخية أو أو الفانتازيا هي الأكثر انتشاراً، مع تفريغ الكوميديا من مضمونها وتحويلها إلى نمط التهريج. وكانت تلك الأنماط أقل عرضة للتصادم مع الخطوط الحمراء التي وضعها النظام. ورغم ذلك، حاول بعض الكتاب والمخرجين، من خلال محاولات متواضعة، تضمين نقد مستتر أو أفكار معارضة للفساد، ما كان يظهر بشكل غير مباشر في الحوارات أو سياق القصص التي لا يفهمها الرقيب الغبي، بحسب شهادات لفنانين تحدثوا عن ذلك بشكل مفصل منذ العام 2011.