في مذكراته "مصر يا عبلة"، الصادرة عن "دار الشروق" بالقاهرة، يحكي التشكيلي المصري محمد عبلة عن اللقاء الأول الذي جمعه بنجيب محفوظ. كانا جالسين في مقهى الفيشاوي الشهير بحي الحسين، فلما عرف محفوظ مهنة عبلة، أغبطه، ثم أخذ بيده إلى الميدان الفسيح حيث أشرقت الشمس وغمر ضوؤها المكان، وقال له: "بقولك يا بختك.. علشان إنتَ بالألوان، تقدر تعبر عن الجمال ده.. بس أنا، ككاتب، محتاج كام صفحة عشان أقدر أوصَّل للقارئ شعور دفا شمس أول النهار".ولعل جملة الأديب العربي الأشهر، التي أفصح عنها قبل عقود، تفسر العلاقة الناجحة بين رواية "مئة عام من العزلة" للكاتب الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز والمسلسل المقتبس عنها الذي بدأت منصة "نتفليكس" عرضه في كانون الأول/ديسمبر الجاري.وفيما لا يوجد مجال لتفضيل فن على آخر يختلف عنه في الأدوات، ربما تمتاز بعض الفنون عن غيرها بقدرة أسرع على مخاطبة وعي المتلقي. فالصورة والموسيقى، على سبيل المثال، أقرب إلى التأثير العاطفي من النص المكتوب الذي يحتاج استيعابه وقتاً أطول، هذا بالطبع إن امتلك ثلاثتهم الجودة الفنية نفسها.
وعارض ماركيز الذي كان يعي ذلك الفارق جيداً، طوال حياته تحويل عمله الأيقوني إلى السينما، بسبب رغبته الشديدة في إثبات تفوق السرد على الصورة من حيث التأثير. فروايته، حسب قوله "كتبت ضد السينما"، بمعنى أنها تسعى إلى إظهار أن الأدب له نطاق أوسع بكثير وإمكانيات أكبر للوصول إلى الناس من السينما.كذلك لا مجال أيضاً للإفاضة في نقاش لا يغني عن صحة أو خطأ منطق الأديب الكولومبي المؤثر، بعدما تحول العمل إلى نص درامي وحقق استحساناً جماهيرياً لافتاً خلال الأسابيع الأولى من عرضه. لكن ما يستحق التوقف عنده هو تلك الكيفية التي خاطب بها النص الجديد متلقياً ربما أغنته الصورة النثرية للرواية التي صدرت العام 1967، وترجمت حتى الآن إلى 45 لغة حية وبيع منها 50 مليون نسخة، عن أي صيغة سواها.والحال أن غرض الاقتباس الفني ليس تمثيل النص المقتبس عنه، وإنما تصوره في أفق مختلف وإعادة طرحه من خلال سؤال أو عدة أسئلة جديدة. وفي حين يبدأ المخرجان أليكس غارسيا لوبيز ولورا مورا أورتيغا عملهما بإشارة واضحة إلى نهاية الرواية، حيث ينتشر النمل الأبيض في جميع أرجاء المنزل، بعدما أكل الحفيد الأخير لآل بوينديا، ذا الذَّنَب، الذي يظهر نائماً والدماء تغطي فراشه، فإنهما لا يسلكان الخط نفسه الذي التزمه ماركيز لبناء روايته، حتى وإن أعقبا ذلك الاستعراض البانورامي بالمشهد الأيقوني للكولونيل أوريليانو بوينديا الذي يعود بذاكرته إلى المرة الأولى التي رأى فيها الثلج بينما يواجه فرقة الإعدام.يؤسس المخرجان الإسبانيان لعالم يخالف الواقع السحري لـ"مئة عام من العزلة". فالسحر في رواية ماركيز يقوم على بدائية العالم الجديد الذي بناه خوسيه أركاديو بوينديا الهارب وزوجته من لعنة عائلية ومن قتيل أرداه في قريتهما الأم. وبناءً على ذلك، يقدم الروائي الكولومبي الحقائق خالية من أسمائها، وبالصورة التي قد ينظر بها الإنسان البدائي لظاهرة يعجز عقله عن استيعابها. فيصف "تسمم الحمل؟" بسائل ثخين لا يعرف سببه، ويجعل من مشروب الشوكولاتة الخارق الذي يجعل القساوسة يطيرون على الطريق الذي اهتدى به خوسيه أركاديو إلى الرب، ويصور البيانولا على أنها "ذلك الاختراع البديع الذي سيثير ذهول القرية وبهجة الشباب".لكن المسلسل، على العكس من ذلك، يذكر الشيء باسمه كما أضحى يعرفه الإنسان، ولكن من دون أن يسلبه دهشته، محولاً السحر الذي ابتدعه ماركيز إلى واقع يخص ماكوندو وحدها. يشبه الأمر أن تحكي قصة عبور النبي موسى وقومه للبحر مرة على أنه شق بعصاه الماء، وأخرى على أن خبرته التي جناها من سنوات حياته في سيناء بجوار البحر الأحمر جعلته يعرف متى يجزر البحر ومتى يمد، فتحين الوقت والمكان الذي يضمن له وقومه عبوراً سالماً. وفي الحالتين، هل فقدت الحادثة أسطوريتها؟هذا الأساس الذي بني عليه المسلسل أحداثه أدخل المتلقي في عالم جديد لا يقارن من خلاله السرد بالصورة، وإنما يتأمل في الأخيرة كيف دبت الحياة في شخصيات ماركيز. ساعد في ذلك الاختيار الملفت للشخصيات من حيث هيئاتهم وقدراتهم التمثيلية الرائعة التي منحتها عمقاً يضاهي ما بدت عليه في الرواية، وربما يتفوق عليها أحياناً.في الرواية، تتنبأ أم أورسولا بأن زواج ابنتها من خوسيه أركاديو سيؤدي إلى إنجاب وحوش. وحتى تتحقق النبوءة في نهاية الرواية، يلعن أبناءهما وأحفادهما بشكل آخر، حيث كان مقدراً لهم أن يكرروا أخطاءهم وأخطاء أسلافهم، ويلجأ ماركيز لاستخدام تقنية تكرار الأسماء مع ذكور العائلة جميعها للإيحاء بذلك المعنى. ويجعل هذا من قراءة الرواية مهمة شاقة، دفعت مثلاً المترجم الراحل صالح علماني لصياغة خريطة بأسماء أفراد العائلة كي يساعد القارئ على التعرف إلى جميع من هم "أركاديو" و"أوريليانو". لكن هذا لم يمثل أي مشكلة في النسخة التلفزيونية، التي تعتمد على ممثلين مختلفين لكل شخصية على حدة.إضافة إلى ذلك، استطاع الطوران المختلفان لكل من خوسيه بوينديا وأورسولا أن يثريا شخصياتهما. فأركاديو المؤسس لم يكن سفيهاً في شبابه بقدر ما كان مهووساً وخائباً وقليل المعرفة، وهي الهيئة التي استطاع الممثل ماركو أوسبينا نقلها ببراعة رغم صعوبتها. وكذلك فعل الممثل دييغو فاسكيز في طور الكهل، حيث امتلأ بالمعرفة وأصابته العدمية. أما ماريليد سوتو التي أدت أورسولا في طورها العجوز، فليس أكثر إدهاشاً من أدائها إلا نظرتها التي تمنح شعوراً أبدياً بالفقد والخوف من أن كل ذلك سيزول.من الأشياء اللافتة الأخرى في العمل الذي يعرض على جزئين وتضمن موسمه الأول 8 حلقات، تقنية استخدام الراوي العليم التي أتاحت لصناعه مرونة كبيرة في القفز بالزمن من خلال التركيز على موقف يخوضه أحد الأبطال أو سردية تخصه، ثم تجاوزها في سلاسة إلى ما بعدها أو ما يتصل بها في زمن تال.في أحد تجليات ماركيز بخصوص تحويل روايته إلى نص سينمائي، اشترط أن يتم تصوير الفيلم بالكامل بما يتماشى مع نطاق الرواية، من دون أي اختصارات، وأن يتم عرضه ليس دفعة واحدة، بل في حلقات سنوية على مدى مئة عام. ولو نُفذ شرطه لما صار غريباً عن عالم صاحب "الحب في زمن الكوليرا". لكن مسلسل لوبيز وأورتيغا لم يحتج إلى مئة حلقة ليكون وثيق الصلة بعالم الروائي الكولومبي الفذ، وإن تعرض له من خلال أسئلة جديدة ووضعه في أفق آخر.