لو ان السؤال طرح في نهاية العام 2023، عن ما يمكن ان يحمله العام المقبل- الراحل 2024، فمن المؤكد، انه ما من أي فرد او عقل او مركز للدراسات، او الأبحاث، كان قادرا على استشراف وتوقع حدوث ما وقع من احداث مهمة، ومفصلية واساسية في العام الماضي.
فما من شك، ان السنة الماضية في احداثها ووقائعها، على مستوى لبنان والمنطقة، حملت وقائع هائلة، وكاملة الصفات الثورية الانقلابية، لناحية كمية التغيير التي أصابت بسببها المشهد العام ومكوناته الاجتماعية السياسية وعلى وجه الخصوص في لبنان وسوريا وفلسطين، مما قد يفتح أبواب التغيير في المنطقة على معطيات ومعادلات جديدة.
عمليا أصاب الانقلاب الكامل، لبنان وسوريا وفلسطين بشكل دراماتيكي. ونحن في قلب احداث لم تنته فصولا، بل في بداية مرحلة جديدة كاملة الجدة، والتحول في اتجاهات لا احد قادر على تحديدها وتوجيهها، ولو ان معالمها وسماتها قد ظهرت وارتكزت على اندفاعة في توسع نفوذ المشروع الاميريكي الاسرائيلي بتوجهاته الصهيونية، في لبنان وفلسطين وسوريا الجولان المحتل، بالتوازي مع تلقي ايران والقوى الحليفة لها ضربات متتالية اعادتها عشرات السنوات الى الوراء.
لبنان الذي كان يخضع للوصاية الايرانية باشراف وادارة امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، تحول الى منطقة نفوذ امريكية تشرف عليها لجنة امنية دولية برئاسة ضابط اميريكي مقيم في بقعة عوكر بدلا من عنجر، قادر على تحريك وامرة كل صنوف الأسلحة الإسرائيلية الجوية والبرية والبحرية القابلة للاستخدام ساعة يريد ويرى ذلك ضروريا.
واذا كانت الموجة السياسية الايديولوجية التي ولدها وصول الامام الخميني، الذي قبض على السلطة في ايران في العام 1978، انطلقت وانتشرت وتوسعت بتاثيرها المباشر في دول عديدة في المنطقة، لاستعادة مجد امبراطورية فارسية غابرة. فان ايران باحلامها لاستعادة امجادها الامبراطورية، كانت قد تحكمت باربع عواصم عربية، وصولا الى مواقع نفوذ وضغط وتاثير على شاطئ شرقي البحر الأبيض المتوسط وحوضه، بما فيها رمال جزيرة قبرص، فان ما جرى خلال الأشهر الماضية قد يكون بداية انحسار موجة الخميني ولاية الفقيه خارج حدود ايران، وعودتها مع تاثيراتها، الى داخل طهران وقم وليس خارج اسوارها، مع ما يعني ذلك من ارتدادات وتاثيرات ومفاعيل.
اهمية التطورات التي شهدها ويشهدها لبنان، في هذه الفترة تمت وتتم، بالتوازي مع تقهقر العهد الأميريكي الديمقراطي، ممثلا بالرئيس الصهيوني الهوى جو بايدن حسب إعلانه، ووصول الرئيس المساند لاسرائيل التوسعية ايضا، لكن صاحب التصرفات الغريبة والراديكالية والمصافحات والخطوات الغير متوقعة دونالد ترامب.
صحيح ان إسرائيل لم تتمكن، ولن تتمكن بسهولة اذا ما ارادت من القضاء على حزب الله في لبنان. لكنها بالتأكيد قد اعادت الحزب كذراع ايرانية سنوات الى الوراء. وعطلت إمكانية ان يتحكم الحزب عبر صواريخه الدقيقة وبعيدة المدى، بخطوط الملاحة و تبادل وإنتاج النفط والغاز والثروات في حوض البحر المتوسط نيابة عن ايران ولاية الفقيه.
لقد نجحت إسرائيل، في توجيه ثلاث ضربات استراتيجية وعميقة في بنية حزب الله خلال الحرب الماضية .
الأولى : تمكنها من اغتيال قائد محور أذرع المقاومة المدعومة من إيران في المنطقة، عبر اغتيال امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ووريثه الذي كان معدا، السيد هاشم صفي الدين، وعدد كبير من قيادات الحزب وكوادره العسكرية في الصفين الأول والثاني.
ثانيا: كشف واختراق اغلب أوجه وطبقات تركيبة الحزب التنظيمية والقيادية بدليل فداحة وعمق ما خلفته ومثلته عملية شراء وتسويق وتفخيخ أجهزة البيجر وأجهزة اللاسلكي وتفجيرها، وما تركته من اثار مباشرة عملية ونفسية في الحزب. إضافة الى تدمير قسم كبير من مراكز ومخازن ومستودعات الحزب العسكرية وملاحقة واغتيال عدد كبير من كوادر النخبة المتقدمة، واختراق صفوف الحزب وصولا الى اختراق وكشف أغلب المنظومة التنظيمية.
ثالثا : قطع طريق امداد السلاح والذخيرة بالطرق الوسائل السهلة واليسيرة والوافرة، عبر قطع طريق الامداد من طهران الى العراق، مرورا بسوريا وصولا الى لبنان.
من المؤكد ان الحزب، سيتمكن من تهريب كميات جديدة من الأسلحة، لكن الكميات الكبيرة بالامكانات الوفيرة، والمفتوحة السابقة، لم تعد ممكنة او متيسرة.
جوهر الضربات، التي وجهتها اسرائيل لحزب الله، تكمن في اسقاطها منطق وخطاب الردع والحماية للبنان. فلا اسرائيل باتت مرتدعة، عن العدوان، ولا لبنان والجنوب باهله، محمي من سلاح الحزب.
العامل الاساسي والكبير، الذي احدث فرقا بين معارك الامس واليوم، ان الحزب خاض معركته بذهنية العام 2006 ، فيما خاضت اسرائيل حربها وتخوضها، بذهنية وادوات العام 2030.
لقد غيرت اسرائيل عقيدتها الحربية والقتالية في لبنان والمنطقة، فيما الحزب استمر على عقيدة الماضي، بما يحمله من تاثيرات غيبية محدودة ومتصلة بماضوية ضيقة، قاصرة عن مواكبة المستقبل والقادم من الايام.
التغيير والتحول الأكثر دراماتيكية، تمثل، بالتغيير الأكبر والافدح والاعمق، عبر سقوط نظام ال الأسد الاجرامي بما يعنيه من صيغة سياسية حاكمة، وطائفية متحكمة ومسيطرة، على عاصمة الامويين، بعد فرار رئيسه وبعض أعوانه مع اموالهم ومنهوباتهم الى خارج سوريا.
ان وصول احمد الشرع، بعد انقلابه على "ابو محمد الجولاني"، على رأس إدارة فصائل "هيئة تحرير الشام" الى قيادة المرحلة الراهنة في سوريا، بلحية مشذبة وربطة عنق مدروسة اللون، يفسح المجال لافتراضات متعددة بما قد تحمله الأيام المقبلة في حال استمرار نجاحها وتقدمها واحكام سيطرتها على سوريا الجديدة في المستقبل.
ان هذا الاتجاه المنطلق من دمشق، من شانه ان يفتح باب التغيير الواسع والإيجابي في المنطقة ككل، ولبنان على وجه التحديد. الى حدود غير معروفة وغير مسبوقة، من التطور والاحتمالات المتعددة على مختلف المستويات، والذي لم يسبق ان خبره او عرفه بلدنا، عبر مراحل تاريخه السياسي القديم والحديث.
ماذا سيحدث في سوريا وكيف ستستقر الامور، بعد هذا التحول الانقلابي الكبير، وما هو الانعكاس على المنطقة ولبنان في المسقبل؟
هذا ما سننتظره ونتابعه بفارغ الصبر والتلهف في القادم من الايام!