في الفقه الدستوري هناك ما يسمّى بنشوء الأعراف الدستورية، التي تأتي غالباً لسدّ بعض الفجوات الملحوظة في قواعد الدستور المدوّن.
والأعراف الدستورية ليست تهمةً ولا عاراً يُعيب النُظم السياسية، فهناك دولاً مثل بريطانيا لا تمتلك حتّى اليوم دستوراً مدوّناً، بل يسير نظامها السياسي وفقاً لأعراف دستورية غير مدوّنة، كما أنّ كيان العدوّ الإسرائيلي لا يمتلك دستوراً بل يستعيض عنه بما يسمّى قوانين الأساس والأعراف الغير مدوّنة، وهناك الكثير من الأمثلة في العالم التي نشأت فيها أعرافا مكمّلة أو مفسّرة للدستور، وما زالت سارية كما في فرنسا ولبنان، فالأصل هو العقد الإجتماعي والمشروعية العامّة وليست النصوص بحدّ ذاتها، فالنصوص ليست كتاباً مقدّساً في نهاية المطاف، وهي قواعد صيغت لتنظّم التعاقد الاجتماعي تحت كنف الدولة.
أمّا الأعراف الدستورية غير المدوّنة حسب تعريف الفقه الدستوري في العالم فهي ثلاث: العرف المعدّل، والعرف المكمّل، والعرف المفسّر؛ حيث أنّ الأعراف تصبح أعرافاً حين تتّسم بالثبات، والمشروعية، وعدم الاعتراض عليها، والتكرار، وعدم تعارضها مع النصوص المدوّنة، لتُكرّس في نهاية المطاف أعرافاً وتقاليدَ سياسية، قد تكون واجهت صعوبة في تحقيق الإجماع عليها حين صيغت قواعد الدستور المدوّن.
وفي سياق السِجال الدائر في لبنان حول انتخاب أحد موظفي الفئة الأولى ووجوب تعديل المادة ٤٩ من الدستور التي تتضمّن ما يلي: “… يُنتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السرّي بغالبية الثلثيْن من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي… كما أنّه لا يجوز انتخاب القضاة وموظّفي الفئة الأولى، وما يعادلها في جميع الإدارات العامّة والمؤسّسات العامّة وسائر الأشخاص المعنويّين في القانون العامّ مدّة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتيْن اللتيْن تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعليّاً عن وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التقاعد…”.
واذا ما انتقلنا إلى المواد ٧٤ و٧٥ من الدستور اللبناني، نرى أنّه في حال خلت سدّة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو سبب آخر، ولأجل انتخاب الخَلَف، يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون، وإذا اتّفق حصول خلو الرئاسة حال وجود مجلس النواب منحلّاً تُدعى الهيئات الانتخابية دون ابطاء، ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الأعمال الانتخابية، وإنّ المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية، ويترتّب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أيّ عمل آخر.
وبناءً على تفسير المواد أعلاه يتّضح وجوب تعديل المادّة ٤٩ لكي يتسنّى لموظّفي الفئة الأولى الترشّح، لكن المادّة ٧٤ بتفسيرها أعطت أولوية لانتخاب الرئيس، واعتبرت أنّ الاستحقاق هو أمر مُلزم، وهنا جاء اجتهاد الفقه الدستوري والدراسة التي أجراها وزير العدل السابق بهيج طبّارة -وهو فقيه دستوري- وذلك بطلب من الرئيس بري، ليقول أنّه في حال حصل الرئيس المنتخب على أغلبية الثلثيْن (٨٦ صوتاً) فذلك سوف يفسّر حسب نظرية المشروعية أنّه انتخاب دستوري، لأنّه يَصعُب أن يُطعن به أمام المجلس الدستوري، إلّا في حال تأمين ٤٣ نائباً وذلك حسب المادة ٢٣ من قانون إنشاء المجلس الدستوري رقم ٢٥٠ تاريخ ١٤-٧-١٩٩٣؛ بمعنى آخر أنّ أغلبية الثلثيْن التي صوّتت لرئيس الجمهورية سوف لن تطعن بنفسها وبدستورية الانتخاب سنداً للمواد ٤٩ و٧٤ و٧٥، وما يتبقى من عدد نواب في المقلب الآخر غير كافٍ لأن يقدّموا هذا الطعن.
خلاصة الكلام، أنّ العيوب الدستورية التي يمكن للأعراف الدستورية -سواء المفسّرة أم المكملة أمّ المعدلة- سدّ الفجوات فيها على قاعدة نظرية الاستثناء والمصلحة العليا، ليست عيباً، بل العيب في أن تبقى تلك المواد تكتنف تعطيل الاستحقاقات الدستورية في طيّاتها، وعدم الوضوح بإلزام نوّاب الأمّة بتأمين النصاب، فلماذا لا يُكتفى بالغالبية المطلقة نصاباً وانتخاباً في جميع الدورات ويتمّ تعديل المادة ٤٩ بما يخدم هذا الطرح؟؟
ثمّ المادة ٥٣ التي تحدّد كيفيّة تشكيل الحكومة وتخلط الصلاحيات بين رئيس الجمهورية والحكومة، بدون تحديد سقوف ومُهَل، يعتبر أيضاً خللاً يستدعي من نوّاب الأمّة اقتراح مشاريع تعديل دستورية تجري الإصلاحات اللازمة، ليس لشيء سوى لديمومة سير انتظام الدولة، ولكي لا يصبح التعطيل هو العرف السائد وشغور المناصب هو الدستور .
ولكي لا نسقط الدولة، ويحصل ما تعجّب منه مونتسكيو يوماً «العجب ليس في كيفيّة سقوط الامبراطورية الرومانية سنة ١٤٥٣، بل العجب كيف بقيت قائمةً إلى تلك السنة».
موقع سفير الشمال الإلكتروني