2024- 12 - 27   |   بحث في الموقع  
logo إحباط عملية تهريب منظّمة لسوريين إلى لبنان logo توقيف أفراد من عائلة الأسد: محاولة الهروب بجوازات مزورة! logo ايلي الخوري عزى بشهداء فوج إطفاء طرابلس logo ياسين اطلق المرحلة الاولى من مساعدة النازحين اللبنانيين من سوريا الى الهرمل logo وفد من حزب الله في الشمال زار طوني فرنجيه logo الراعي استقبل بطريرك الارمن الكاثوليك ووفداً من “التقدمي” للمعايدة logo بري استقبل سمير عساف وبيار الضاهر logo الاحتلال الإسرائيلي يقتحم مستشفى كمال عدوان ويخضع الجرحى للتفتيش
العودة إلى دمشق: عشوائية جرمانا وحميمية باب توما (3)
2024-12-27 00:25:45


هي رحلة مؤجلة منذ 20 عاماً إلى المدينة التي وقعت في غرامها وكرهت حالها في آن معاً، منذ زيارتي الأولى عام 1988. آنذاك، كانت المدينة المترامية التي تغلب عليها أناقة الماضي والإلفة والسهولة، تهيمن عليها أيضاً مشاعر قابضة للأنفاس. بعد جزء أول، وثانٍ، هنا الجزء الثالث:أمام مجلس الشعب المقفل، لا أحد. أتسامر مع أصحاب المحلات الذين يرددون "خلصنا والحمدالله: إذا كان واحدنا نطق بكلمة دولار، من الممكن أن يعتقل لسنوات". يأتي صوبي شاب يجر حقيبة سفر، تدل ملامحه وهندامه وقصة شعره أنه مغترب، سائلاً بلهجة سورية واضحة عن عنوان فندق. فيجيبه صاحب المحل Welcome..Welcome.
هذا الشاب أشبه بالسنونوة الأولى. فسوريا تنتظر شباب ربيعها الذين لا بد سيأتونها بعشرات الآلاف، حاملين معهم علمهم ومهاراتهم وحيويتهم وخبراتهم وما اختزنوه من اختبارات ثقافية وحضارية ومدنية، شديدة التنوع، خصوصاً منهم الآتين من أوروبا، هم الذين تهجّروا إليها وكانوا أطفالاً، واكتسبوا معارف وقيماً وأفكاراً. هؤلاء سيشكلون على الأرجح "قفزة" اجتماعية وثقافية واقتصادية، أشبه بتعويض نسبي عن فداحة وأهوال اللجوء والنزوح والنزيف الديموغرافي الذي سببته حرب الأسد على الشعب السوري. ستربح سوريا جيلاً معولماً وسيكون تأثيره جوهرياً في صوغ مستقبل البلد وفي تحولاته الاجتماعية والثقافية والسياسية.أدخل مقهى الروضة الأسطوري، وأصاب بخيبة: لا أحد من الأصدقاء هنا. معظمهم بين المنفى والمقبرة. مكان مضغوط بدخان النراجيل، ورواد لا توحي وجوههم بشيء. كانت الكراسي القديمة نفسها تعويضاً وهمياً، إذ رأيتها أطيافاً للشخوص الذين جلسوا عليها دهراً.
هذه دمشق ليست تماماً التي أعرفها، غاب عنها سعيد حورانية، شوقي بغدادي، ممدوح عدوان، علي الجندي، هاني الراهب، خالد خليفة، محمد الماغوط، بندر عبد الحميد، حكم البابا وطه خليل وأكرم القطريب وشاكر الأنباري، ولقمان ديركي.. والأجيال التالية لهم. لم أوفق بلقاء آخر الصامدين، خليل صويلح، لإزالة عتب متبادل قديم.لا أدري كيف التقطني الإعلامي النشط ابراهيم التريسي: سآخذك إلى ندوة سياسية في جرمانا.
تلك الضاحية حيث يختلط السكن من جميع الطوائف، والتي كانت تحت سيطرة النظام، منطلِقاً منها في معارك الغوطة والجوار الثائر، أشبه بمتاهة فوضوية هي تماماً على نسق معظم العمران الذي نما كالفطر في دول الفقر العربي. أو هي أقرب إلى مزيج الضاحية الجنوبية لبيروت والمخيمات الفلسطينية. متوسطو الحال والفقراء والمعدومون معاً، ومنبثقة ما بين العشوائية في البناء، والتخطيط الهندسي الارتجالي. اكتظاظ بشري وازدحام مروري خانق وأحياء ضيقة وصخب مضاف إليه أجواء احتفالية بسقوط النظام وتعطش الناس المذهل للخروج والتسكع والتسوق، كأن لا أحد يريد البقاء في منزله.
أيضاً، التعطش الآخر هو الكلام العلني، النقاش وإعلان الرأي في كل شيء. ويحدث هذا -للمفارقة- في المقر السابق لحزب البعث!لا أصدق عيني: 400 شخص دفعة واحدة ملؤوا القاعة وبعضهم وقوفاً. في اليوم الثالث عشر على سقوط النظام، والنقاش يندلع في الفضاء السوري. الحوار في كل حي وبيت وعلى كل صفحة فايسبوكية. عنوان الندوة حول الدستور الجديد والمأمول. وبعد يوم على استماعي للغة الشارع وتعابيره، كان لا بد من الإصغاء لطبقة أخرى "مثقفة" (اصطلاحاً).
على المنصة، الدكتور زيدون الزعبي، الدكتور ابراهيم دراجي، وفائق حويجة، بإدارة سلمى الصياد، مديرة ملتقى نيسان الثقافي. تتدفق منهم كلمات حول الهيئة التأسيسية، دستور 1950، الاستحقاقات، شكل الحكم، دور المجموعات المدنية والسياسية ودعوتها للتوحد، السلم الأهلي، القواسم المشتركة، وحدة سوريا وسيادتها، العدالة، الحوار الوطني الجامع، التشارك لا الفرض.. وبما يعبّر عن المكونات التي تحتاج إلى "الضمانات".
خلاصة الندوة، اقتراح إعلان دستوري انتقالي قائم على حقوق الإنسان، والمساواة بلا تمييز جندري وإثني وطائفي. لكن الأهم هو ما لمسته عند المتحدثين والجمهور، من إصرار على "التسامح" واللا دم. هناك نفور عميق عند السوريين من أي عنف. شعب منهك حتى العظم من القسوة والعنف ومظاهرهما.
غرقت الندوة، كما هو متوقع، في سؤال "آليات تنفيذ" كل هذه العناوين. وما هي الأولويات، وكيف يكون الحوار مع أحمد الشرع، ودعوة الذين بالخارج ليأتوا ويمارسوا دورهم.بين نعرة "الضمانات" والمخاوف الجدية من هيمنة الإسلام السياسي، بغض النظر عن مدى اعتداله، ورفض احتمال استلهام الشرع الإسلامي لصياغة القوانين والدستور، والشعور بهامشية المعارضة الآتية من خلفيات يسارية وقومية (وبعضها كان مهادناً أو متحيّراً)، وقفت سيدة يدل هندامها المحافظ وحجابها الصارم على ميولها السياسية، وراحت بلغة متوترة وغاضبة تتكلم عن تضحيات المعارضة المسلحة التي أتاحت اليوم إقامة هذه الندوة بحرية و"من دون إذن من الأمن السياسي" (وفق ما كان يحدث أيام نظام الأسد). لم تنس التشديد بنبرة تشبه الصراخ على "الذي تقرره أغلبية الشعب السوري سيكون مقبولاً كدستور، بشرع إسلامي أو غيره". هكذا، سقطت قشرة العبارات المواربة والمنمقة لنصوص الندوة، وبانت المعاني الفعلية للاختلافات المضمرة والعميقة، الطائفية أو الفكرية، على نحو ما أظهره أيضاً الاعتصام الهزيل للمنادين بالعلمانية في ساحة الأمويين، بعد يوم واحد.
فجأة، يصل نباح كلاب شاردة إلى داخل القاعة، فيعلق أحدهم: "يبدو أن النظام قد عاد". فتضج القاعة بالضحك الذي يبدد التوتر الأخير.بعد هذه الوجبة السياسية الثقيلة، كان لا بد من باب توما وباب شرقي. فلا اكتمال لمشوار في دمشق من دونهما. وبلا مواربة، مسيحيو سوريا (ولبنان) هم الإضافة الحضارية، هم الأصليون طبعاً، وبهم تكتمل هويتنا. الحيّان معقل مسيحيي دمشق، وفيهما يختبر واحدنا معانقة التاريخ والاستئناس بحاضر مضاء وحيوي وخلّاب.
تلك هي دمشق العتيقة والعامرة في آن معاً، ببيوتها المتواضعة والمسحورة بجمال الذوق والحرص. لكن أيضاً سحرها بروح الضيافة والهدوء وحسن تدبير العيش ومظاهره. إنها أيام الأعياد وزينتها المبهرجة، وليل السهر والتنزه. ندخل تحفة معمارية تراثية، تحولت بإبداع وفن رفيع إلى فندق "بيت الولي". احتفال باذخ وشديد الذكاء بعراقة البيت الدمشقي وزخرفاته وفنونه، وعناية باهرة إلى أدق التفاصيل. فضاء أشبه بكاتدرائية الهندسة الشامية وعناصرها الفريدة.
كيفورك، جالس في دكانه الصغير، بتكاسل يستقبل سيل زبائن سندويشاته، البسطرما والسجق. متعة صغيرة لا يمكن تفاديها في هذا الليل القارص ببرده. شبان ورفيقاتهم، كأزواج من عشاق يتسكعون ويتهامسون على امتداد الشارع حيث زينة الميلاد تبهج العين والقلب.
حانة أبو جورج. الواقف عند بابها سيظن أنها لا تسع أكثر من 4 أشخاص. نتردد لهذا السبب. لكن جاذبيتها لا تقاوم. حميمية المكان تجعله يتسع لنحو عشرين شخصاً. ننحشر بكامل رضانا، بل بتواطؤ خفي بين جميع الزبائن على الإلفة وتبادل الأحاديث. ترحيب متوقع بنا كلبنانيين وصحافيين. ففي "خمّارات" دمشق يمكنك أن تعاين معنى تلك الكلمة العربية لأصحاب الشراب: الندماء. نعود إلى الفندق، برفقة سائق تاكسي كان عنصراً بـ"المخابرات الجوية". كلماته لا تكتم غضبه وحنقه. صوته المخيف وانفعالاته الجسدية تدل على ارتباك المذنب. إنكاره أنه عذَّب أو اعتقل أو قتل، غير مقنع: "كنت فقط بقوة الاقتحام"، "نعم، داومت على حواجز لكن لم أتعدَّ على المدنيين".
خيم الصمت بعدها طوال الطريق. خوف متبادل بيننا، بل فاحت راحت الكراهية. الكراهية التي برع الأسد في زرعها بين السوريين.
(يتبع)


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top