حجبت الأزمة المالية المستمرة منذ خمس سنوات وما تبعها من حوادث أمنية وأزمات سياسية وحرب مع إسرائيل، الأنظار عن وضع السجون الكارثي، الذي ينذر بانفجار قد يعجز الجميع عن تفادي شظاياه. فلا تعاني السجون في لبنان من أزمة محدّدة المعالم بل من أزمات باتت متداخلة لا يمكن التعامل معها بشكل منفرد، بل تحتاج إلى ورشة إصلاحية متكاملة تبدأ من الإرادة السياسية تمر بالجسم القضائي وصولاً إلى التغطية المالية. ولا يتوفّر حتى اللحظة أي من تلك العوامل.
باتت سجون لبنان بغالبيتها أشبه بـ"مدافن للأحياء" على حد تعبير مصدر من أحد سجون الشمال، فلا تغطية صحية ولا تغذية كما يلزم ولا تأهيل ولا حتى محاكمات، على ما يقول المصدر. فالسجناء في الغالبية الساحقة من السجون يفتقدون لكافة سبل العيش، ما يدفعهم إلى مواجهة أدوات تعذيب متنوعة ومختلفة عن التعرّض الجسدي المباشر.الدولة لا تقل إجراماًولا يقل إجرام الدولة عن الجرائم التي ارتبكها نزلاء السجون، فالدولة تحرم المئات منهم من العلاج وتزج الآلاف في غرف لا تصلح للعيش. ولا ترتبط أزمات السجون بمجملها بالأزمة المالية بل أيضا ًبالإهمال القضائي وتجاهل المحاكمات وحرمان السجناء والموقوفين من أدنى حقوقهم.
ويقول مدير مركز حقوق السجين في نقابة المحامين في طرابلس، والمدافع عن حقوق الانسان، المحامي محمد صبلوح في حديث إلى "المدن" أن السجون تعاني أزمات متنوعة اليوم، على مستوى الغذاء والصحة والاكتظاظ وعل مستوى المحاكمات أيضاً "فنزلاء السجون المرضى يتلقّون العلاج على نفقة ذويهم الخاصة وبالتالي من لا يملك المال لا يتلقى العلاج ومنهم من يحتاجون عمليات جراحية، يعانون حتى الموت" فالطبابة شبه معدومة، على ما يقول صبلوح.
وليس تعذيب السجناء بالتعرّض الجسدي فقط إنما يشمل النفسي والصحي وهو ما يعد أكثر إيلاماً. وأكثر ما يعزّز الأذى النفسي والصحي لنزلاء السجون في لبنان سوء الإنفاق ونقص التقديمات الصحية والغذائية وشبه انعدامها والفساد في إدارة السجون وتجاهل الإكتظاظ فيها لا بل المساهمة من قبل السلطات السياسية والقضائية بأزمة اكتظاظ السجون.
وإذ يرى صبلوح ان سوء التغذية وغياب الطبابة والاكتظاظ، وغياب الرعاية والتأهيل ترقى إلى مستوى التعذيب الجسدي والمعنوي يؤكد بأن السجون في لبنان لا يمكن إلا أن تخرّج مجرمين "فظروف الحياة فيها لا تسمح للسجين لا بالإصلاح ولا بالتأهيل".
وبحسب مصدر في أحد سجون منطقة الشمال فإن وضع السجون كارثي والطعام الذي يصل السجن لا يكفي للنزلاء كما أنه رديء جداً، ورغم ذلك يضطر السجناء إلى تدبّر أمرهم بما يتوفر لهم، أما لجهة الطبابة فمعدومة كلياً فلا يتم تقديم حبة مسكّن للألم لأي مريض من نزلاء السجن لعدم توفّرها. ويختصر المصدر وضع سجون الشمال بالقول "أنها عرضة للإنفجار بأي لحظة خصوصاً أن أوضاعها كارثية ولا تخضع لحماية كبيرة فالعناصر الأمنية في سجون الشمال يكاد عددها لا يتعدى أصابع اليد".
وعلى الرغم من محاولات بعض الجمعيات والمنظمات سد الفراغ الكبير والتقصير الذي خلّفته الدولة في ملف السجون، ومنها من يقوم بتأمين الطبابة والغذاء والرعاية الصحية والنفسية والتأهيل لعدد كبير من السجناء كمركز ريستارت المتخصص بتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، إلا أن الحاجة تبقى أكبر من قدرات الجمعيات. فالسجون تستلزم بالدرجة الاولى خفض نسب الإكتظاظ فيها قبل الحديث بأي حاجات أخرى.اكتظاظ السجون 300%
تتفاوت معدّلات الاكتظاظ بين سجن وآخر ولا تقل نسبة الإكتظاظ بأي سجن عن نسبة 100 في المئة ويبلغ المعدّل العام للإكتظاظ في سجون لبنان عامة نحو 300 في المئة وهو معدّل مرتفع جداً لم تشهده السجون يوماً، على ما يقول صبلوح. ومن مجمل السجناء تبلغ نسبة المحكومين منهم 40 في المئة فقط في حين أن الغالبية غير محكومين، بحسب أرقام وزارة الداخلية.
عند الحديث عن اكتظاظ السجون تتجه أصابع الإتهام مباشرة إلى السلطات القضائية والأمنية والسياسية، فثمة موقوفون في النظارات لم يخضعوا للمحاكمات منذ 4 و5 سنوات. وهناك من ينتظر لأكثر من 3 أشهر فيأحد سجون طرابلس من دون محاكمة بانتظار سوقه (نقله) إلى المحكمة في بيروت، ولسان حال القوى الأمنية بأن لا إمكانية لسَوق الموقوفين. حتى أن أهالي الموقوفين يقومون أحياناً بتأمين البنزين أو المازوت لآليات القوى الأمنية لتتمكن من سَوق الموقوفين من السجون الى المحاكمات.
ويشكو صبلوح امتلاء نظارات قوى الأمن الداخلي وتحويل الموقوفين الى الأمانات لدى الشرطة العسكرية ما خلق مشكلة مستجدة تتعلّق بسَوق الموقوفين الى جلسات المحكمة الخاصة بهم إذ ترمي كل جهة مسؤولية السَوق على الجهة الأخرى، والنتيجة عدم مثول الموقوفين في المحاكم. بالنتيجة يفتقد الموقوفون والسجناء لأبسط مقومات المحاكمة العادلة وهي ان يتم محاكمة الموقوف بشكل عادل وخلال مدة زمنية محددة.
آن الاوان لتنفيذ العدالة الانتقالية وليس بالضرورة عفواً عاماً عن الجميع بل "عدالة انتقالية" يقول صبلوح "هذا المفهوم المعترف به من قبل الامم المتحدة يحتاج إلى قانون في لبنان وبذلك يمكن ان نجبر الضرر ونخفف اكتظاظ السجون وفي الوقت عينه تتاح الفرصة لترميم السجون بحيث تتمكن من تطبيق الهدف الذي انشأت من أجله".
مع الإشارة إلى أنه عادة ما يتم تطبيق العدالة الانتقالية عند وقوع أخطاء وتقصير من قبل الدولة "وبحسب الأمم المتحدة تغطي العدالة الانتقالية كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بمحاولات المجتمع للتعامل مع إرث من الصراعات واسعة النطاق والقمع والانتهاكات والتجاوزات في الماضي، وذلك من أجل ضمان المساءلة وخدمة العدالة وتحقيق المصالحة".