ليست الحرية نهاية القصة للمحررين من سجون النظام السوري مؤخراً. بل هي بداية مواجهة جديدة مع النفس جراء إرث السجن الثقيل والعذابات والندوب النفسية الناتجة عن أساليب التعذيب والانتهاكات التي طالتهم، لتتحول حياتهم إلى معركة يومية لاستعادة التوازن.
من أصل ملفاتٍ موثّقة لـ 622 لبنانياً اعتُقلوا أو خُطفوا أو اختفوا في "سورية الأسد"، لم يَعُدْ منهم إلى لبنان بعدما فرّ السَجّان إلى موسكو وتَهاوى نظامُه، إلا تسعة محررين، كُتبت لهم الحياة من جديد، في وقت يستمرّ مصير الآخَرين مجهولاً. وتواصلت "المدن" مع عدد منهم. البعض روى ما عانه. والبعض الآخر فضل عدم الحديث، بل كتم غذابته بينه وبين نفسه."ما زال السجن يعيش داخلي"اعتُقل معاذ مرعب (50 عاماً) عام 2006 في مدينة دوما بمحافظة ريف دمشق، أثناء عودته من العراق حيث كان يعمل في مجال الصحافة خلال الغزو الأميركي. نُقل في بداية اعتقاله إلى سجن أمن الدولة في منطقة كفرسوسة بدمشق، ثم إلى فرع فلسطين، أحد أكثر المراكز الأمنية السورية شهرة بسمعته السيئة بالتعذيب الوحشي، وبظروف الاحتجاز غير الإنسانية.لاحقاً، تم ترحيله إلى سجن صيدنايا بريف دمشق، المعروف بـ"المسلخ البشري"، حيث شهد عمليات تعذيب وإعدام ممنهجة لأعداد كبيرة من المعتقلين. هناك، قضى مرعب خمس سنوات قبل أن يُنقل مع اندلاع الثورة السورية في 2011 إلى سجن عدرا المركزي بريف دمشق، الذي تحرر منه أخيراً في عام 2024.خلال سنوات اعتقاله، تعرّض مرعب لشتى أنواع التعذيب، كما يروي لـ"المدن"، بدءاً بالضرب المبرح والتعرية، وصولاً إلى الترهيب والإذلال. إضافة إلى كيل الإهانات والشتائم". ومن أبشع أدوات التعذيب يتذكّر "الكبل الرباعي"، وهو كبل كهربائي تتُضاعَف قوة صدمته عند استخدامه لضرب السجناء. ويقول مرعب: "مع كل صعقة منه كانت تنتزع قطع من لحم أجسادنا وتتناثر الدماء".عاد مرعب إلى مدينته طرابلس شمالي لبنان، لكنه يجد صعوبة بالتأقلم، ويقول: "أشعر بالغربة. لا يزال غير مدرك لما يحيط بي. ما زلت معتاداً على روتين معين. عندما يعيش الإنسان حياة طبيعية، يكون واعياً لكل ما يدور حوله، لكن هذا الإحساس لا يزال مفقوداً لدي. أعيش حالة من الترقب الدائمة. لا أنام جيدا. أخاف النوم، وأشعرأن لا لزوم للنوم أصلاً".رحلة طويلة من العذابيعيش عدد كبير من السجناء في المعتقلات داخل غرفة واحدة، مما يضطرهم إلى الجلوس والنوم بطرق معينة لتوفير المساحة، ويصفون هذه الوضعية بـ"سيّف". ينام السجين على جنبه طوال الليل مستقيماً كالسيف. هذه الظروف القاسية تركت آثارها على جسد معاذ مرعب أيضاً: "حتى جسدياً، ما زالت التشنجات موجودة وأشعر بها. جو السجن ما زال حاضراً في داخلي". يقول.أما عن علاقته بالمجتمع بعد الحرية، فيعترف مرعب بأنه يواجه صعوبة في التأقلم: "أنزعج كثيراً من الضجة، ولم أتأقلم اجتماعياً بعد. أفضل الوحدة على المكوث وسط مجموعات بشرية".سهيل حموي أمضى 32 عاماً في المعتقلات بعد الحكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة الانتماء إلى حزب القوات اللبنانية، المعروف بمعارضته للوجود السوري في لبنان. حموي عاد إلى منزله في شكا بعد إطلاق سراحه من سجن اللاذقية الساحلي، حيث التقى مجدداً بعائلته التي فقدته منذ عقود. لكن رحلته لم تقتصر على هذا السجن، فقد مرّ بمحطات طويلة من العذاب بين صيدنايا، وسجون أخرى شملت الحبس الانفرادي في فرع فلسطين، الذي قضى فيه خمس سنوات كاملة، معزولاً عن العالم، لا يفرق بين ليله ونهاره.ما زال حموي يجانب الحديث عن تجربته. وعلى ما تروي زوجته جوزيفين لـ"المدن": "كل شيء جيد، ومعنوياته عالية جداً. يمارس حياته بشكل طبيعي للغاية، ولا نعاني سوى من الحاجة إلى الفحوصات الصحية الروتينية." وتضيف "يأكل جيداً، ينام بشكل طبيعي، وحتى يمارس الرياضة بانتظام".الشعور في سجن آخرالمتخصصة في علم النفس الجنائي والتي تواكب أوضاع المساجين، ديما عبدالله حرب، تؤكد أن الأشخاص الذين مروا بتجارب قاسية في سجون الأسد وتعرضوا لتعذيب جسدي ونفسي وجنسي يعجزون عن التعبير عن معاناتهم، إذ يتداخل الألم مع الصمت ويرفض الدماغ التحدث عن هذه التجارب.وأضافت حرب أن أنواع التعذيب التي يتعرض لها السجناء تظهر على شكل اكتئاب حاد، ويعاني البعض من الأرق، بينما يفقد آخرون الشهية أو يتجهون لتناول الطعام بشكل مفرط. بعد الإفراج عنهم، يشعر المعتقلون وكأنهم في سجن آخر نتيجة التحديات الكبرى في التكيف مع الحياة الجديدة. فهم يعانون من قلق مفرط، وتوتر دائم، وعصبية، وصعوبة في اتخاذ القرارات، مع الخوف المستمر من تكرار التجارب المؤلمة، مما يعزلهم عن محيطهم الاجتماعي.وفيما يخص "الخوف من النوم"، توضح حرب أنه نوع من الرهاب المتمثل في خوف مفرط وغير عقلاني من النوم، خاصة لدى الأشخاص الذين تعرضوا لضغوط قاسية في السجون. قد ينشأ هذا الخوف نتيجة مشاهدتهم لأشخاص آخرين يعانون من أحداث سيئة أثناء نومهم، مما يجعلهم يعتقدون أن كل شيء من حولهم يمثل خطرًا. وبالتالي، يصبح الخوف من النوم بمثابة آلية دفاعية لحمايتهم من هذا الخطر المتخيل. كما أن البعض يعاني من كوابيس مزعجة نتيجة لاضطراب ما بعد الصدمة، مما يؤدي إلى تطور حالة من الخوف من النوم كوسيلة لتجنب إعادة تجربة هذه الأحلام. وقد يحدث الخوف أيضًا بسبب نوبات هلع أثناء النوم، حيث يخشى الشخص من النوم مجددًا لتجنب تكرار الشعور بالذعر، خاصة عندما لا يستطيع التحكم بنوبة الهلع.