رغم مرور عقد على رحيله، يحضر الكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز (1927- 2014) هذا العام بعملين: الأول رواية أوصى بعدم نشرها تحمل عنوان "موعدنا في شهر آب"، والثاني مسلسل تلفزيوني يستند إلى روايته الأشهر "مائة عام من العزلة"(*)، خلافاً أيضاً لرغبته.ما يميّز المسلسل احترامه جوهر أصله الأدبي، والتزامه بكلمات ماركيز، في كلّ فاصلة، وكلّ وصف. بعبارة أخرى، هو نسخة سمعية بصرية من الرواية أكثر من كونه عملاً له هويته الخاصة. ربما، بالنسبة لملايين القراء والمعجبين بهذا النصّ الأساسي للأدب اللاتيني الأميركي، فإن قرار الفريق الإبداعي وراء الاقتباس التلفزيوني هو الأكثر منطقية وصحة. قد يكونون على حق، لاستحالة معرفة كيف كانت ستأتي النسخة الأكثر تحرّراً وأقل اتباعاً. على أي حال، قد يكون مسلسلاً أميناً سهل الهضم ويحقّق وظيفة عدم إفساد النصّ للأجيال القادمة، ولكن يصعب اعتباره إنتاجاً فنياً منفصلاً له حياة تخصّه. المؤكد أنه يقدّم تجربة مشاهدة ممتعة وجديرة باستثمار الوقت فيها، وإطلالة كريمة على كتابٍ سيستمر في بناء أساطيره إلى ما بعد وجوده.
ليس سهلاً إعادة خلق عالم مثل الذي تخيّله ماركيز لماكوندو ومحيطها - ذاك الذي يمكن التعرّف عليه ولكنه في الوقت نفسه مستحيل - والذي تدور فيه أحداث روايته الصادرة للمرة الأولى في 1967. أنفقت "نتفليكس" الملايين تلو الملايين في سبيل تحقيق ذلك، إلى حد بناء مدينة بأكملها من الصفر، تماماً كما فعل السكان الأصليون للمكان، الذين حطّوا رحالهم في تلك المنطقة بعد رحلة حج طويلة إلى وجهة غير مؤكدة، وإن كانت الشركة الحمراء فعلتها في وقتٍ أقل بكثير. ماكوندو الرواية تنمو وتتطوَّر وتنهار وتعيد تشكيل نفسها مع مرور الوقت، والعقود والأجيال، والأمراض والحروب، والحياة غير المحتملة والوفيات غير المتوقعة، والسحر والكيمياء والشيء الغامض الذي نسمّيه الواقعية السحرية التي تحرّك عظام الموتى، وتولّد "رذاذاً من الزهور الصفراء الصغيرة" أو تسمح للأحياء بالتفاوض مع الأشباح. قرنٌ يختصر قروناً.
تتناول الحلقات الثماني المكوّنة للموسم الأول من المسلسل النصف الأول من الرواية. وتحديداً، الجيلين الأولين من عائلة بوينديا، قبل أن يتعيّن ترقيم عائلتي أوريليانو وأركاديوس لتمييز ومعرفة الشخصيات. يبدأ كل شيء بالزواج المحرّم الشهير بين أبناء العمّ أورسولا (سوزانا موراليس ولاحقاً مارليدا سوتو) وخوسيه أركاديو (ماركو أنطونيو جونزاليس ولاحقاً دييغو فاسكيز)، الذي رفضه مجتمعهما وتحدّاه، زواجٌ أثار مناقشات حول رجولة الرجل وأثار خوفاً بسبب خرافة تقول بأن "صبياً بذيل خنزير" سيولد من اتحاد عائلي كهذا. لكن أطفال الزوجين سيكونون، على الأقل بهذا المعنى، بشراً، بكامل أعضائهم وفتحاتهم في المكان الصحيح.
سيتبع المسلسل خطى النصف الأول من الرواية، بدءاً من قرار تأسيس ماكوندو، والنمو الأولي للمدينة، ووصول الغجر، والكيميائي ميلكياديس أوتشوا (مورينو بورخا)، والاتصال ببقية العالم الناتج عن رحلات أورسولا، وفي حلقاته الأولى، يركّز على الهواجس العلمية والزائفة لخوسيه أركاديو، الذي تخلّى عن رعاية أطفاله وتنمية مدينته، ليكرّس نفسه لاكتشافات تسمح له بالقول إن "الأرض مستديرة مثل البرتقالة"، من بين اكتشافات أخرى لعالمٍ يبدو مخترَعاً للتو.
فكرة ماكوندو كاختراع خارج الزمان والمكان ("كان العالم حديثاً جداً لدرجة أن العديد من الأشياء كانت تفتقر إلى أسماء، ولذكرها كان عليك الإشارة إليها بإصبعك") هي أساس ما سيلي: مستقبل أبناء الزوجين، أطفالهما والأطفال المتبنّين، وأولئك الذين ليسوا لا هؤلاء ولا هؤلاء، كلهم بشخصياتهم المختلفة، ورومانسيتهم، وانفصالهم، ومعاركهم، واختفائهم الغامض، وعاداتهم الغريبة. يبدأ كل شيء مع الانفعالي خوسيه أركاديو الابن (ليوناردو سوتو وإدغار فيتورينو)، يليه أوريليانو (سانتياغو فاسكيز وكلاوديو كاتانيو) الأكثر خجلاً وتردّداً في البداية، والسوداوية أمارانتا (لورين صوفيا باز)، والمتبنّاة ريبيكا (لورا غرويسو)، والذين يجب أن نضيف إليهم أركاديو (جانير فياريال) الذي يُعامل مثل الابن بينما في الواقع ليس هذا هو الحال تماماً (رغم أن الرواية عمرها 70 عاماً تقريباً، ستتجنّب هذه المقالة أي مفسدات فرجة).كل الأحداث التي تصفها الرواية حولهم جميعاً ستظهر ممثلةً في المسلسل: هناك أعراس تتمّ وتفشل، وأبناء "حرام" ومواجهات مأسوية، وهواجس، واكتشافات، وتوقعات محققة، ولاحقاً صراعات سياسية وحروب أهلية بين أحزاب وعصبيات ناشئة. بمرور الوقت، ستصبح ماكوندو مكاناً أكثر تقليدية، بمشاكل مماثلة لتلك الموجودة في البلدات والمدن الكولومبية الأخرى (خاصة تلك المرتبطة بوصول المؤسّسات الدينية والطبقة الحاكمة)، ولكنها ستحتفظ لنفسها بتلك الخاصية الفريدة التي تسمح، من وقت لآخر، لبعض الحقائق أن تتجاوز استخدام العقل ومنطق العلوم الصعبة. ليس في كل المدن يسافر خيط متقلّب من الدماء مئات الأمتار من تلقاء نفسه للإعلان عن وفاة أحدهم.تتوافق كل حلقة من حلقات المسلسل، مع بعض الاستثناءات والتعديلات المحدّدة، مع فصل من فصول الرواية. وعادة ما تنتظم بناءً على تعليقٍ صوتي، يقتبس حرفيًا نثر غارسيا ماركيز ويبدأ كل حلقة أو يرافق موقفاً لافتاً (ريح، وصول إلى منزل، "وباء"، وفاة وما إلى ذلك) يختبره أفراد عائلة بوينديا وآخرون من سكّان ماكوندو التي تزداد اكتظاظاً وفوضى، بعدما كانت قرية لا يتجاوز عمر أحد فيها 30 عاماً. ويتبع الصوت الأحداث، وهو عادة عبارة عن ترجمات سمعية وبصرية أمينة لما ترويه الرواية، وغالباً ما يوضع في الحوارات بين الشخصيات بعض المواقف التي حلّها الكاتب بطرق أخرى ملائمة للوسيط الأدبي.
إخلاصٌ لا تشوبه شائبة، لكنه يحدّ خيال المبدعين وما يمكن (أو لا يمكن) أن يساهم به هذا التصوّر في عالمٍ صنعه القرَّاء في رؤوسهم عند قراءة الرواية. هناك لقطات متسلسلة طويلة ومتمهلة تسمح لنا برؤية السخاء والاعتناء الإنتاجي، وبعض اللحظات الشعرية الرائعة في حلقاته الأولى والعديد من المؤثرات الخاصة. والشعور الذي ينتاب المرء أن كلا من الأرجنتيني أليكس غارسيا لوبيز والكولومبية لورا مورا - المسؤولان عن إخراج خمس وثلاث حلقات على التوالي - أخذا عملهما بجدّية واحترافية السائرين على قشر البيض، محاولين عدم اتخاذ خطوة خاطئة أبداً مع علمهم بهول المخاطر. بدون مثل هذه العناية، قد يقع اقتباس رواية كهذه في مهاوٍ سحيقة، وهو أمر لحسن الحظ لم يحدث قطّ (أقلّه في هذا الجزء الأول)."مائة عام من العزلة"، المتسم أحياناً بنبرة صاخبة وبعض الأداءات المتكلّفة من طاقمه المتباين، لا يفقد بوصلته ويحاول، مثل سكّان ماكوندو الأوائل، بذل الجهد والتضحية للوصول إلى ميناء آمن، والوصول إلى وجهته بكرامة ودون خسائر كبيرة. رحلة، مثل رحلة هؤلاء الحجاج، لن تصل إلى البحر أبداً، ولكنها ستستقر في مكان مريح حيث يمكنها البقاء. يتحقّق الهدف، ولا شيء أكثر من ذلك. أكثر من كونه أمام عمل إبداعي فني، يشعر المرء وكأنه أمام مجموعة كبيرة من الناس انطلقوا لحلّ مشكلة - الجزء الذي يُفترض أنه غير قابل للتصوير في رواية غارسيا ماركيز – وتمكّنوا أخيراً من الخروج بنجاحٍ نسبي في تحدّ صعب.
العديد من موضوعات الرواية وبعض شخصياتها الرمزية ظلّت، من نواحٍ كثيرة، أسيرة زمن كتابتها، ولكن في نواحٍ أخرى تُقدّم على أنها ذات صلة ولا تزال غير محسومة، وخاصة ما تقوله "مائة عام من العزلة" عن الصدام بين العلم والسحر، وبين التقليد والحداثة (أو بين المحافظين والليبراليين)، وبين العقل والجنون، وعن الروابط الأسرية الممتدة والمضطربة التي قادت عائلة بوينديا إلى تحويل لعنتها نبوءة تحقّق ذاتي. عادةً ما يكون الخوف من الوحدة والموت هو الأصل الذي لا يمكن السيطرة عليه لكل الأشياء. الهزّة المربكة التي تحرّك العالم، تلك التي ترفعه إلى الذروة ثم تدمّره، وتحوّله إلى "زوبعة مرعبة من الغبار والحطام"...
(*) يُعرض حالياً في "نتفليكس".