2024- 12 - 27   |   بحث في الموقع  
logo بوحبيب ينقل رسالة إلى دمشق: لبنان يتطلع لأفضل العلاقات logo حزب الله شيع الشهيدين ليلا وجبارة في الغازية وحارة صيدا logo الجيش: انسحاب قوات العدو من مناطق في القنطرة وعدشيت القصير ووادي الحجير logo تطوّر جديد في قضية دهس عنصر قوى الأمن ببيروت.. logo استشهاد 5 من طاقم مستشفى كمال عدوان.. بينهم طبيب logo نهاية شجاع العلي: عرّاب الخطف والاغتصاب على الحدود السورية-اللبنانية logo قُتل اليوم.. من هو السوري شجاع العلي؟ logo توقيف مطلوب سرق معرض سيارات في عكار
السجن الانفرادي في "فرع الخطيب": التهمة صحافي!
2024-12-26 11:25:43

الاسم: بشار دريب، المؤهلات العلمية: خريج كلية الإعلام جامعة دمشق، التهمة سابقاً: صحافي سوري تحت سقف الوطن، العمل حالياً: صحافي في "تلفزيون سوريا" في تركيا.
إنها الساعة الواحدة ظهراً في 20 كانون الأول/ديسمبر 2009. كل شيء يسير كالمعتاد، أتابع عملي في موقع "دي برس" السوري الإلكتروني كصحافي استقصائي. وأتبادل المزاح مع زملائي من وراء ستار زجاجي كان يفصل بيننا قبل أن تحل اللعنة غير المنتظرة أو ربما المنتظرة دوماً.دورية أمن مكونة من ستة أشخاص تقريباً مدججين بالسلاح تداهم المكتب. صمت مطبق في المكان وترقب وخوف لا مثيل لهما. ومن دون حتى ذكر اسمي يتم اقتيادي ووضعي في الصندوق الخلفي لسيارة تابعة لفرع الأمن الجنائي الكائن في باب مصلى.التوسل كلمة لم أعرف معناها حرفياً إلا في حينها. ساعتان من الرجاء لمعرفة التهمة الموجهة إلي بلا جدوى، وبدأت تلقائياً أكيل التهم لنفسي قبل أن يتم نقلي في الساعة الثالثة إلى "فرع الخطيب"، أحد أشهر الفروع الأمنية في سوريا بسبب انتشار التعذيب فيه، لتبدأ معاناة لا نهاية لها وأنا معصوب العينين تكال لي كل الشتائم، ويتم إنزالي عنوة إلى درج، تلمست أنه يفضي إلى غرف منفردة.أنا داخل إحداها كانت أشبه بالقبر، بطول 190 سم إلى مترين، وبعرض 70 سم على ما أعتقد، وارتفاعها لا يتجاوز المترين ونصف المتر. صُممت بحيث تمنع أي خيط ضوء من التسلل إلى داخلها. مرت الساعات الأولى وأنا أحاول أن أقنع نفسي بأن ما حصل هو خطأ لا محالة، وبأنني سأخرج بين ساعة وأخرى، فكل التحقيقات التي عملت على إنجازها كانت تختص الشأن المحلي، أو بعض عمليات الفساد، ونشاطي المعارض على شبكة الإنترنت كان بأسماء وهمية، ومن مقاهي الإنترنت التي كانت منتشرة حينها.بعد مرور أربع ساعات بدأ الخوف يتسلل إلى داخلي، وحده السجان أخبرني بأنني قد نشرت خبراً عن انتشار حالات لإصابات مرض نقص المناعة المكتسب في منطقة من ريف دمشق. ما الخرق الأمني في ذلك؟ أصبت بالذهول لكون الخبر موثقاً، ولا يمس أياً من الخطوط الحمراء التي طالما تم تلقينها لنا.مرت الليلة الأولى في تلك الزنزانة، وكأنها الليلة الأولى في القبر، أصوات أنين المعذبين كنت أسمعها تخرج من تحت الأرض، وأعتقد أن الوقت كان قرابة منتصف الليل، وعند الساعة الثالثة ربما، بدأ عدد من السجناء الإسلاميين بتلاوة القرآن، اعتقدت أنه طقس يقومون به بهدف الدعاء والطلب من الله أن يفرج عنهم سجنهم، لكن بعد أن أصغيت جيداً لهم، اكتشفت أنهم يقومون بتحفيظ القرآن لبعضهم عن طريق تلاوته وإعادته، طبعاً الجميع كان في زنازين منفردة، ربما امتلكوا شيفرة معينة بهم يقومون من خلالها بتنظيم الحفظ والدور والتكرار.لا أعلم كيف انتهت تلك الليلة. صباحاً ضربت على الباب. ليقوم سجان بفتح شباك صغير موجود على الباب من الخارج ويسألني عما أريد، وبكل سذاجة طلبت كتاباً أو صحيفة أو مجلة، ليأتي الرد مباشرة: بأنه سينقل مرض نقص المناعة المكتسب إلى والدتي. حفظت ملامحه ولسانه القذر جيداً، وبكيت، وقد شعرت بأن دنساً مس أمي.مرت الأيام في المنفردة وكانت أقل هولاً، فالاعتياد، وكما يقول ممدوح عدوان هو أصعب شيء ممكن أن يحدث للإنسان، وبدأت أحاول أن أجد شيئاً يمكنني من عد الأيام التي أمضيها، ولم أجد إلا الغطاء القذر الذي أتدثر به، كنت أعد خيوطه يومياً، وأخطئ بالعد من أجل أن أبدأ من جديد، ومن أجل معرفة الأيام كنت أسحب خيطاً واحداً كل يوم، لأكتشف بعد خروجي من هذه الزنزانة اللعينة أني قضيت 35 يوماً بين جدرانها. وما بين صوت التعذيب الذي أسمعه ليلاً، وصوت المعتقلين الذين يتلون القرآن يومياً، أمشي جيئةً وذهاباً داخل تلك المنفردة الحقيرة حتى لا يتفسخ جلدي نتيجة الاستلقاء الطويل.وها أنا أطلب للتحقيق للمرة الأولى في الساعة الثانية ليلاً. عصبت عيناي ومشينا في ممر طويل وطلب السجان مني الانتظار وبدأت أعد الدقائق، وبعد ساعة تقريباً وفقاً لحساباتي أدخلت إلى غرفة المحقق، الذي بدأ بالحديث عن المؤامرة التي تحاك على البلاد وأهمية الصحافة المسؤولة، حينها تشجعت وطلبت منه نزع العصابة، لينادي الحارس الموجود خارجاً ويأمره بنزعها، وإذا به شاب لم يبلغ الأربعين من عمره، وأمامه تلة من الأوراق يصل ارتفاعها قرابة النصف متر.سألني حينها هل تعرف ما هي هذه الأوراق؟ أجبته: لا، ليقول إنها كل التحقيقات الصحافية التي كتبتها منذ العام 2006، لكنه احتفظ جانباً بتحقيق خاص بضحايا الألغام في مدينة القنيطرة، كنت قد عملت على إنجازه ونشره يحمل عنوان "الألغام من أمامكم والعدو من خلفكم"، إذاً هذه هي التهمة، إنصاف أناس فقدوا أطرافهم وشلت حياتهم، لكن ما الضير في ذلك؟ثم أكال الضابط لي كل الشتائم بتهمة التجرؤ على مهاجمة عضو في مجلس الشعب يتمتع بالحصانة وجمعية خيرية مختصة بتقديم المساعدات لضحايا الألغام في سوريا، واتهامها بسرقة المساعدات الدولية الخاصة بمن قطعت أطرافهم، لأكتشف أن هذا العضو والجمعية يعملان تحت إدارة "الامانة السورية للتنمية" في الخفاء، التابعة لأسماء الأسد، والتي كانت شريكة بسرقة تلك المساعدات.بعدها وقف وضرب بيده على الطاولة التي أمامه ورمى التهمة بوجهي: "أنت عميل لإسرائيل"، سنقطع قدميك ونركب لك أطرافاً اصطناعية أسوة بمن كتبت عنهم، وصرخ بالعنصر الموجود خارجاً، وأمره بإعادة العصابة على عيني. وهو ما تم بالفعل من دون أن يتنبه السجان أنني أستطيع أن أرى منها ولو بشكل جزئي، وبعد نزولنا من الدرج استطعت رؤية بعض المعتقلين الذي يعذبون في ساحة السجن، وكان من بينهم شاب أعتقد أنه لم يتجاوز الـ25 عاماً، وكان ينزف من أعلى رأسه.عدت إلى المنفردة، الخوف يأكلني: "العمالة لإسرائيل"، وها أنا أتلمس قدمي بين الفينة والأخرى. تتالت الأيام وسط خوف شديد كلما أسمع وقع خطوات تقترب من المنفردة، ليصل بي الحال إلى التفكير بالانتحار، لكن حتى الموت كان رفاهية غير موجودة في ذلك السجن.بعد انتهاء الـ35 يوماً في المنفردة أدخلت إلى "الجماعية"، وكانت عبارة عن غرفة صغيرة تقدر مساحتها بين الثمانية والعشرة أمتار، وبداخلها 11 سجيناً، وأنا كنت السجين رقم 12.وذاك الشاب العشريني الذي كان يتعرض للتعذيب غدا صديقي الوحيد كان من محافظة درعا، ومن آل أبازيد، وكانت تهمته الانتماء للتيار السلفي فقط وليس التيار الجهادي. في إحدى الليالي كشف لي عن جرحه، وإذا به حفرة بحجم البيضة داخل رأسه، قال لي حينها، لولا هذه الحفرة ما خرجت من الزنزانة التي عشت بها منذ 3 أشهر.الغريب أنه في تلك الغرفة اجتمع كافة خصوم النظام السابق، فكان منهم الإسلاميون والشيوعيون والأكراد، باستثناء شخص واحد، كان ضابطاً ادعى حينها أنه تشاجر مع رئيس الفرع، في حين يؤكد بقية السجناء أنه جاسوس دس في المكان، الكل متوجس من الآخر، وأعتقد أنها لعبة النظام القذرة. وفي هذه الغرفة قضيت رأس السنة الميلادية، ودخلنا عاماً جديداً، ولكن من دون أي احتفال، فحتى الغناء الذي حاول بعض السجناء الشيوعيين تأديته، جاءهم صوت من الخارج أمرهم بالسكوت وإلا. لتمر تلك الليلة والجميع يحاول أن يسترجع ما تيسر له من ذكريات.بعد عشرة أيام من العام الجديد خرجت من هذا الفرع، وتم إيداعي في سجن الشرطة العسكرية، وعلمت في اليوم الأول لي هناك أن محاكمتي ستكون عسكرية، وأنني إما أني سأساق إلى سجن صيدنايا، أو سيطلق سراحي، وبعد 5 أيام حكم القاضي بسجني مدة شهرين بتهمة "نشر معلومات من شأنها أن تعكر الصفاء بين عناصر الأمة"!لحظة خروجي من السجن ووضع الختم على باطن يدي، لم أكن مدركاً حينها أن شهرين من عمري قد مرا، ولم أكن مصدقاً أيضاً أن هذا الجحيم يمكن له أن ينتهي، وتصبح تلك المنفردة من الذاكرة. لولا رؤيتي لسجاني في إحدى المظاهرات. لحظة درامتيكية لا تنسى، هو يجري وأنا أجري وراءه في لحظة استعدت بها كل الشتائم التي نعتني بها. كنا في حي الميدان الدمشقي، تاه مني بين الطرقات، فقلت في نفسي أنت شجاع في ممرات السجن وفأر في الخارج.وطيلة تلك الفترة، واصلت العمل مع أكثر من موقع إلكتروني وخصوصاً موقع "سراج برس" التابع للهيئة العامة للثورة السورية، وبقيت فيه طيلة عامين وطبعاً بأسماء مستعارة. وخروجي من سوريا كان على أمل أن لا يستمر أكثر من شهرين إلى ثلاثة أشهر، لكن وبعد 13 عاماً من الثورة، بات لزاماً علينا أن نعمل على نقض سردية النظام بمحاربته للإرهاب، والتأكيد على السردية الأولى للثورة السورية، وأنها خرجت على نظام مجرم.بعد انطلاق عمليات "ردع العدوان" لم يكن أحد مصدقاً أنها ستتوسع وتصل إلى دمشق، وأكثر ما كان ينتظر منها السيطرة على محافظة حلب، ومع توغل المقاتلين باتجاه الجنوب بدأ الأمل يعود من جديد، وأن العودة إلى دمشق ممكنة.في الليلة الفارقة في حياتي وحياة كل السويين كنت قد ذهبت للنوم، لكن لم أجد سبيلاً إليه، فقررت العودة إلى المكتب في الساعة الرابعة صباحاً ومواصلة العمل، فالجميع في "تلفزيون سوريا" المعارض كان يعمل كخلية نحل، بدأت بالعمل ومتابعة الأخبار، ولم أكن متخيلاً أن يأتي اليوم وأكتب فيه هذا العنوان: "هنا دمشق.. سقط الأسد". كتبتها وأنا بكامل قواي العقلية وعانقت لحظتها كل السجناء في "فرع الخطيب".


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top