2024- 12 - 26   |   بحث في الموقع  
logo بدر من دار الفتوى: حاضرون لدعم ملف إعادة الإعمار logo الجماعة الإسلامية: آن الأوان لرفع الظلم logo ذكرى رحيل فريد الاطرش... وثيقة تكشف طبيعة علاقته بوالده logo "مائة عام من العزلة".. ماركيز يصل الشاشة الصغيرة logo لافروف: روسيا لن تسمح بتقسيم سوريا.. وسفارتنا بدمشق تعمل logo إنفوغراف أصول المصارف العربية... ماذا عن لبنان؟ logo ماذا عن التزامات سوريا الخارجية؟ logo المستشفيات ترفع تعرفة التعاقد مع الشركات الضامنة
العودة إلى دمشق: إرث البعث الرهيب (2)
2024-12-26 00:25:40

هي رحلة مؤجلة منذ 20 عاماً إلى المدينة التي وقعت في غرامها وكرهت حالها في آن معاً، منذ زيارتي الأولى عام 1988. آنذاك، كانت المدينة المترامية التي تغلب عليها أناقة الماضي والإلفة والسهولة، تهيمن عليها أيضاً مشاعر قابضة للأنفاس. بعد جزء أول، هنا الجزء الثاني:كانت عيوننا لا تتوقف عن التحديق في كل الاتجاهات. ونحن الذين كانوا محشورين بين "سوريا الأسد" الممنوعة علينا وإسرائيل المستحيلة لنا، فجأة وجدنا أنفسنا نكتسب مدى يمتد من بيروت إلى اسطنبول شمالاً أو إلى بغداد شرقاً وإلى الأردن والجزيرة العربية جنوباً. كأننا خرجنا من ضيق لبنان إلى جغرافيا بلا حد. بل كأننا ربحنا "عروبة" كان المتشدقون بها أول أعدائها. كل كيلومتر نجتازه أشبه بتحرير للروح والمخيلة. الوصول إلى دمشق كأنه ثأر شخصي يتحقق. فكل لبناني وفلسطيني وسوري نجا من الشرّ الأسدي، لن يرتعد بعد الآن من دخول سوريا. ثم أن نضع على زجاج السيارة الأمامي كلمة "صحافة" لهو أمر سوريالي، في بلاد كانت قبل أيام قليلة تستدعي هذه الكلمة الاعتقال والاختفاء وربما القتل.أوتوستراد المزة ينبسط أمامنا، نبتسم غريزياً. زميلنا علي لشدة دهشته ولهفته نسي أن يرفع الكاميرا ليصور مدخل العاصمة المحررة. إشارات السير تعمل! حركة صباحية تظهر في كناسة الشوارع، والبنايات التي تتثاءب شرفاتها. سيارات تتجه نحو قلب العاصمة. تتفتح الذاكرة: إنها الأمكنة الأليفة ذاتها. الدكاكين الأنيقة، والأبنية الواطئة المتشابهة، والشجيرات النحيلة عينها. لا مسلحين ولا أي مظهر عسكري، ولا شرطة! ومع ذلك، شعور مفاجئ بالأمان تبرهنه الحركة الواثقة للسيارات والمشاة في هذه الساعات المبكرة.
علم الثورة يغطي أحفورة "مكتبة الأسد" على الواجهة الرخامية الضخمة. ساحة الأمويين بكامل هيبتها وسعتها. الناس لا يزالون منذ 12 يوماً، يقفون في وسطها ويلتقطون "السيلفي": إشهار فوتوغرافي لـ"ها قد عدنا". فحتى سكان العاصمة لم يكن لديهم الجرأة أن يتسكعوا هنا في البقعة الأشد حراسة ومراقبة، والمحاطة بمنشآت النظام ومراكزه الحساسة. كاميرات تلفزيونات العالم منصوبة هنا على مدار الساعة. الثورة أيضاً مصدر رزق للباعة المتجولين: الأعلام، الشالات، الاكسسوارات، والبوسترات.إنه "الشيراتون" إياه، الذي كان منذ تدشينه، أشبه بمقر رجالات النظام وضباطه ومخابراته وضيوفه وأثريائه، ومرتع اللهو لهم، بكل ما يعنيه اللهو -وفق ثقافتهم- من فضائح وتحلل. في التسعينات، دخلت إليه لموعد، فكان مشهد اللوبي بهذا الفندق كلقطة سينمائية مصطنعة تعبّر عن حفلة موبؤة بالثراء المشبوه والاستفزازي. هذه المرة كان اللوبي نفسه حاشداً بالإعلاميين، بعائلات سورية وصلت للتو إلى بلادها، برجالات النظام الجديد، الريفيين المتواضعين.
الفندق أصبح عتيقاً. موظفة الاستقبال تبوح: "الزبائن الآن ألطف. لا علاقة لي بالسياسة، لكني أشعر بالراحة". ليس الشاب الإدلبي الشديد الخجل، الواقف بسلاحه أمام الفندق هو مصدر تلك الراحة، بل غياب صانعي الرعب.وفوراً، نفلت من الفندق بتوق لاكتشاف المدينة والتجول فيها. سائق التاكسي الأول من جبلة. متحفظ ومرتبك. سائقو التاكسي هم مزاج المدينة ولسانها. كان النظام يدرك أهميتهم. يجس نبض المدينة بواسطتهم. إنهم آذان وعيون الشارع. رادار للإشارات السيكولوجية عند السكان.
في مكتب سيريتل، تغمرني تلك الضحكة النضرة الطالعة من القلب، ومن الخدود المحمّرة بهجةً للموظفة العشرينية، مجيبة عن سؤالي: "ماذا تغير في 12 يوما؟". قالت من صميم روحها: "كللللل شي".الصالحية هي بالنسبة لي القلب النابض. إنها مرتعي. هي ذاتها لم تتغير. عتقت وتكلّحت. مات مقهى برازيليا، الذي ولا مرة دخلت إليه إلا والتقيت بغير موعد بصادق جلال العظم ومحمد الماغوط وعماد حورية في مكتبته الأنيقة.. وبكثير من الشعراء والصحافيين والمسرحيين. لم يمس أحد تمثال يوسف العظمة الذي يخضع للترميم. مقهى هافانا ليس هو نفسه، معتم وكئيب وقد تبدل رواده. لكنه كمعظم مقاهي دمشق خال من الادعاءات الاستهلاكية، مقهى حقيقي بلا زوائد كاذبة. باتجاه محطة الحجاز، تنكشف أمامي دمشق التي تشغفني: دكاكين الحلويات والسندويشات، البسطات المتواضعة، الشبان والشابات بالآلاف ذهاباً وإياباً، الشحاذون، المتسكعون، اللاهثون إلى أعمالهم. الخليط البشري الحيوي. الازدحام الذي ينظمه متطوعون يرتدون سترات برتقالية، خضعوا لتدريب مكثف وعلى عجل. جسر فكتوريا الرابط بين أجزاء المدينة وتحته الفائر بالعابرين إلى كل الاتجاهات. مبنى البريد المهيب كتحفة معمارية دالة على زمن الدولة السورية في عزها. تبدلت بسطات الكتب ببسطات البضائع الصينية الرخيصة. واليوم، لا باعة سريين لعلب السجائر المهربة، لا سوق سوداء للدولار، لا مجندون فقراء، لا طلاب مدارس بثياب عسكرية. لا سيارات متوقفة لدوريات المخابرات. مدينة متخففة من زمن البعث على نحو مباغت. لكن ما يذكرنا به وبشكل فجائعي وصادم، هو الجدران الممتلئة في كل مكان بملصقات صغيرة لصور مفقودين، ونداءات لمن يعرف عنهم شيئاً: فلان الفلاني اختفى يوم كذا عام 2012. فلان الفلاني اعتقل في تلك محلة عام 2013 ولم يعرف مصيره حتى الآن، من لديه معلومات ليتصل على هذا الرقم. فلان الفلاني، فاقد الذاكرة، لمن يعرفه يتصل على هذا الرقم.هذه الملصقات، هي الإرث الرهيب والجرح الفظيع والغائر الذي لن يندمل لزمن مديد. هي التعبير المكثف للجريمة الشاملة التي ارتكبت بحق سوريا والسوريين. وكانت تلك الجدران نفسها أشبه بمقابر جماعية شاسعة وزنزانات لانهائية لعشرات ومئات ألوف السوريين. تلك الآلاف من الوجوه الملصقة على جدران دمشق تحدق فينا ككابوس من الشعور بالذنب. هذا هو متحف "سوريا الأسد".المذهل هو التحول الفيزيولوجي للغة الجسد السوري. هذه المشية الجديدة المطمئنة للسائرين، هذا الصدر المفتوح لا المنقبض، هذا الرأس غير المطأطئ، هذه العيون غير المواربة والمباشرة النظر، هذا الكلام العلني والأصوات الواضحة. هذه اللامبالاة بلا نظرات التوجس. بل هذه الراحة والشعور بالفرح والزهو، وحرية التجول بعد سنوات من الانحباس الطوعي أو القسري، ومتعة الانغماس بهذه الحشود. الفتاة الدمشقية قالت: منذ خمس سنوات لم أغادر حارتي. سيارات كثيرة لوحات أرقامها من مختلف المحافظات السورية: إدلب، حلب، حمص، درعا.. السوريون أتوا لزيارة العاصمة بعد حرمانهم منها لسنوات طويلة. يتفرجون كسياح على دمشق، هم الذي قضوا أكثر من عقد يتجنبون الخروج من منازلهم أو حاراتهم، بما يعنيه الخروج من محنة المرور على حواجز لا حصر لها، كلها مصدر خوف وخطر وامتحان مرعب، واحتمال مهانة أو اعتقال أو سلب.
كنت مثلهم، أتذوق حرية الذهاب من مدينة إلى أخرى، والمشي أنى شئت والتجول بلا حاجز.أصل إلى الحمرا، الذي أراه الآن أجمل من حمرا بيروت الذي تشوه على نحو لا شفاء منه. شابات محجبات يتسكعن بمرح، يقفن عند بائع الذرة الذي زيّن عربته بعلم سوريا الحرة. ألقي التحية عليهن وأتذكر عبارة "حرائر الشام" أيام تظاهرات الثورة.
دمشق أنثى خجولة، تبتسم الآن.
(يتبع)


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top