2024- 12 - 26   |   بحث في الموقع  
logo سوريا المحاصرة بالمخاطر: أولوية تحصين الداخل سياسياً وأمنياً logo العودة إلى دمشق: إرث البعث الرهيب (2) logo فتور "القوات" تجاه قائد الجيش: أحكام مسبقة أم البرنامج؟ logo سوريا: الهدوء يعود لمناطق الاحتجاجات.. وتحذيرات من التحريض الطائفي logo استغل نزوح سكان راشيا الفخار في الحرب وهذا ما فعله.. قوى الأمن بالمرصاد logo البطريرك الراعي في عظة قداس الميلاد: ميلاد المسيح حدث تاريخيّ ذو مضمون لاهوتيّ logo البطريرك روفائيل بيدروس: الرجوع إلى انتمائنا وإلى وطنيتِنا رمز الانتماء logo زاخاروفا: نظام كييف يهدد الغرب
2024: نقد الحاجة إلى الانتصارات
2024-12-25 17:55:43


يبدو أن الحاجة الماسة إلى الإنتصارات أشدّ وقعاً على الجماعات من الهزائم. فالهزيمة قد تؤدي لإنعطافة أخرى في المسارات أو في العلاقات مع الآخرين وقد تؤدي إلى مساءلة الذات حيال خياراتها وتراها أيضاً قد تسوق جماعة الحاجة إلى الإنتصارات إلى إعادة النظر بسرديات عميقة حيث ترقد أسرار الحروب التاريخية المقدسة بين الحق والباطل بين التذبذب واليقين وبين الطمأنينة والإرتياب. فتأمّل الماضي، كما يعلم الجميع، هو محاولة استقصاء الحاضر عبر غبش هذا الماضي وغباره وعبر صهيل صوت الخيول وحواف السيوف.

ربما الحاجة إلى الانتصارات هو نمط آخر من الشغف، نمط يجعل الحرب حاجة، يجعلها ضرورة بل ويجعلها وسيلة مقدسة لعقد الصلات مع العالم، فإذا بكل "انتصار" هو "انتصار إلهي"!!
من المعروف أن المشاعر تتغير إزاء المواضيع، قد تتمدد أو تتقلص أو تذوي وتذوب أما الشغف بشكل عام فهو بمثابة بوصلة الإبحار في العالم، سفينة النجاة وصولاً إلى إضفاء القداسة على الحياة عبر موضوع الشغف... وموضوع الشغف في هذه القراءة هو شغف الحاجة الماسة للإنتصارات.
من المؤرخين من يرى أن التاريخ لدى البعض يقوم بالعمق على إضفاء المثالية على الذات أما هذه المثالية فأكثر ما "تتألّق" عبر ديمومة التفوّق على الآخرين... عبر ديمومة الإنتصارات.فالطابع غير المؤكّد للعالم في هذه السياقات يتمّ إعادة النظر فيه وبالتالي ترتيبه عبر فعل الإنتصار، عبر التمسّك بخطاب الإنتصار وصولاً لاعتبار حتى الهزيمة الواضحة الهيئة والصورة والبنيان انتصاراً. إنه شغف الحاجة إلى الإنتصارات هو من يرسم الملامح والتعابير ومنبريات الأجساد ونظرات العيون ورجف الشفاه. في وصفه لشغف البخيل بماله يقول الكاتب الفرنسي إميل شارتييه المعروف ب آلان: "الفم مشدود ومنزلق مثل صرة النقود"... أما شغف الحاجة إلى الإنتصارات فلعله يؤدي بالفم لأن يكون مشدوداً بمحض عبارات الشهادة والفخر والعزة والإباء وكل ما يدور في فلك معجم الإنتصارات. إننا هنا إزاء فتور في العلاقة مع الحياة وفراغ الروح وبلادة الجسد إذا لم تكن هذه الحياة وهذه الروح وهذا الجسد رهن شرط مسيس الحاجة لمراكمة الإنتصارات.
ثمة من كتب أن المرء لا يسعى لأن يكون سعيداً، بل يسعى لأن يكون أكثر سعادة من الآخرين. هي عبارة تليق جداً بذوي الحاجة إلى الإنتصارات حتى لو كانت الهزيمة مدوية مع الأخذ بعين الإعتبار ضرورة استبدال كلمتي "سعيد" و"سعادة" في عبارة مونتسكيو بكلمتي "منتصراً" و"إنتصار" في كتاب أهل الحاجة القاتلة للإنتصارات. ففكّ الإرتباط مع أدنى شروط الحقيقة الذي يسوقه شغف الحاجة للإنتصارات يقود، نعم يقود، لأن تُخطّ الهزيمة، كل هزيمة، بعبارات الإنتصارات... ولله في خلقه شؤون.
من المعروف أن بعض الطموحات تَنسج بمهارة وبالخفاء جملة من المؤامرات المهلكة ضد أصحاب هذه الطموحات بالذات. أيضاً وأيضاً، إنه شغف "الحاجة إلى..." بعامة هو الذي يرسم حدود العالم حسب مقتضيات هذه الحاجة فكيف والحال مع شغف الحاجة إلى الإنتصارات!!
من النافل أن نقد الحاجة إلى الإنتصارات لا يستدعي على الإطلاق الركون إلى شروط الهزيمة لكنه نقد يستدعي بالحد الأدنى أن لا تكون عقود وعقود من التحضيرات لرمي العدو في البحر محل انمحاق بأيام معدودة.
قد يقتعد المرء الأرض بانتظار تحقيق آماله وقد يطوّع العالم، كل العالم، في سعيه لتحقيق هذه الآمال أما أن يكون تحقيق أي أمل في العالم عبر شغف "الحاجة الملحة لتحقيقه..." فالأمر عندئذ يكتنفه الكثير الكثير من الغموض والإلتباس. على كل حال، وكما يرى أهل التجربة والإختصاص فإن مواضيع الشغف بالعمق هي بمنأى عن الآخرين، هي في بعض توهجاتها مواضيع سرية ومحل حوار لا يستكين بالدرجة الأولى ومع الذات... وفيما يتعلق بشغف الحاجة إلى الإنتصارات إن الذات الجماعية هي بنيان متراص وشديد التماسك والثقة العمياء بدعاة هذه الإنتصارات. فالكائن الشغوف هو في بعض وجوهه كائن سرّي ومتوحّد وكل الأسباب المنطقية حيال موضوع شغفه تكمن في هذا الموضوع بالذات...
إن الشغف في بعده الأعم هو انبعاث متوهّج للتناول الطفولي للعالم ويا لها من طامة كبرى أن يتوهّج هذا التناول للعالم في غير أوانه عبر لعبة لا نهاية لها من خوض الحروب ومن بعدها حروب إلى آخر الزمان... إلى الإنتصار على البشرية جمعاء من عرب وعجم وشرق وغرب وموتى وأحياء.
بشكل عام، إن قطار "الحاجة إلى..." لا يملك نقطة وصول واضحة المعالم بيد أن قطار الحاجة إلى الإنتصارات لا حدود له بالمرة... هي حدود تقع فيما وراء الحياة. فكل الحطام والأشلاء والتشرّد والدماء والدموع هي تفاصيل لا بدّ منها في لوحة الحاجة الهائلة للإنتصارات.
في حكيه عن موت الأبرياء في الحروب يستعير أمين معلوف في كتابه "غرق الحضارات" المثل الألماني التالي: لا يجدر رمي الطفل مع ماء الإستحمام.
إن الأمل، كل الأمل، يبقى في أن يعي أصحاب الحاجة إلى الإنتصارات أن رمي أطفالهم وغيرهم من الأبرياء مع مياه استحمام انتصاراتهم لن يقدّم لهؤلاء الأبرياء إلا الغرق في البؤس والألم والخوف والقهر وصولاً إلى التخاطف الدائم للنظرات بين الطمأنينة و"الإنتصار" الآتي.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top