"إن فكرة ظهور خميني آخر في دمشق لكفيلة بأن يشعر العرب تماماً كما الغرب بالقشعريرة تسري في أجسادهم".
الاقتباس أعلاه يعود إلى جريدة التايمز البريطانية في شباط/فبراير من العام 1982، تعليقاً على مجزرة حماة التي ارتكبتها القوات المسلحة السورية وسرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد ضد سكان المدينة، وذلك لقمع انتفاضة تصدرتها جماعة الإخوان المسلمين ضد حكومة البعث. المذبحة التي كانت أكثر الأعمال دموية التي ارتكبتها حكومة عربية ضد شعبها، وجدت من يدافع عنها في وسائل الإعلام الغربية. صدمة انهيار حكم شاه إيران وإعلان الجمهورية الإسلامية في طهران لم يمر عليها حينها سوى أعوام قليلة، وبدت سوريا البعثية في بعض التحليلات الغربية شديدة السطحية حائط صد يقف أمام تمدد أيديولوجيا الثورة الإسلامية في الشرق الأوسط. خارجياً كما في الداخل مارس حافظ الأسد عدة استراتيجيات شديدة التعقيد لترسيخ حكمه. داخلياً كان هناك خلط مقصود بين الخطابات العلمانية الجذرية والاشتراكية ومعاداة الامبريالية التي روجها نظام الحكم ومركزية دور الأقلوية الطائفية في تشكيل مؤسساته. لبعض المراقبين من الخارج كان من العسير الجزم إن كان الصراع الدائر هو بين العلمانية والأصولية الدينية أو بين الديكتاتورية وعموم الشعب.من حيث السياسة الخارجية، تقارب حافظ الأسد مع الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية وطعّم خطابه السياسي بالكثير من الشعارات الماركسية، وفي الوقت نفسه عقد تحالفاً مصيرياً مع طهران ومع الحركات الشيعية في لبنان المجاور على أسس طائفية. ومد النظام السوري يده إلى الولايات المتحدة مبقياً الباب مفتوحاً أمام الكتلة الغربية. وبينما أدعت دمشق محاربة الملكية الرجعية في الأردن حصلت على تمويلات سنوية من السعودية ودول الخليج الأخرى باسم التصدي لإسرائيل. كان اللعب على التناقضات غريزة النظام الأسدي الأساسية، وعبرها نجح في جمع أكثر التحالفات تناقضاً وتنافراً فيما بينها في سلته. وعبر هذا التلاعب، صار حافظ الأسد الحليف الأقرب إلى إيران الخمينية في المنطقة، هو صمام الأمان لمنع ظهور خميني آخر في دمشق.الغرض من الرجوع إلى ذلك التاريخ الذي يبدو اليوم ماضياً سحيقاً وهامشياً بعد كل ما جرى في سوريا في العقد الماضي، هو التذكير بأن الأسد الأب كان من رواد توظيف فزاعة الإسلام السياسي لحشد الدعم لحكمه في الداخل والخارج على السواء، حيث وجدت مذبحة مثل التي جرت حماة من يبررها في الصحافة الغربية، تلك المذبحة التي ستصير نموذجاً سيتم نسخة وتوسيعه على رقعة سوريا بأكملها في عهد الأسد الابن. وبالمنطق الانتهازي الموروث نفسه استدعى بشار حزب الله والحرس الثوري الإيراني لمواجهة "الإرهاب" الإسلامي، وبالطبع ما يعنيه الإسلام في هذه الحالة هو إسلام الأكثرية السنية على وجه التحديد. وفي هذا السياق، كان ظهور داعش طوق الأمان الذي أنقذ نظام دمشق ومدد في عمره بضع سنوات إضافية كانت أشد مرارة على السوريين.في النهاية يظهر خميني آخر إلى دمشق بحسب التعبير المتقادم لجريدة التايمز. يصل متأخراً أربعة عقود وبثمن باهظ ودموي لهذا التأخير، كلف أكثر من نصف مليون قتيل وتدمير شبه كامل لسوريا. لم يكن هذا الظهور حتمياً بلا شك، لكنه حدث بعد أن منحت مذابح النظام السوري الساقط كلمة "العلمانية" وقعاً وحشياً مشيناً ومرعباً. يبقى القول إن الفزاعة الإسلامية ليست من ابتداع نظام الأسد بالكامل، وأن هناك الكثير مما يبرر الخوف من الإسلاميين القادمين على ظهر دبابة، سواء في التاريخ السوري القريب جداً أو في تجارب تاريخية في دول أخرى. اليوم أمام سلطة الأمر الواقع في سوريا فرصة تاريخية لمحو مبررات ذلك الخوف وأسبابه، وأمام عموم السوريين المؤمنين بالعلمانية واجب تطهير تلك الكلمة مما لحق بها من عار.