صباح السبت، أتهيأ للانطلاق إلى دمشق. تأتي فيروز مغنيةً "نبي" جبران من مصدر مجهول في الشارع. هذه الصدفة تجعلني أشعر أني وصلت إلى دمشق بغمضة عين. فالعاصمة السورية (أكثر بكثير من بيروت) لا تستيقظ إلا على صوت فيروز. الصباح الدمشقي فيروزيٌ كتقليد متعصّب، راسخ وقديم.تلك إشارة غامضة، مشجعة على رحلة مؤجلة منذ 20 عاماً إلى المدينة التي وقعت في غرامها وكرهت حالها في آن معاً، منذ زيارتي الأولى عام 1988. آنذاك، كانت المدينة المترامية التي تغلب عليها أناقة الماضي والإلفة والسهولة، تهيمن عليها أيضاً مشاعر قابضة للأنفاس، علامات غامضة على انحباس الزمن، إشارات من الصعب تعيينها تدل على صمت قسري وعلى توتر في التعبيرات العمرانية وهوياتها الهندسية، وانقباض في الأجساد التي تتحرك في الفضاء العام. بدت دمشق دوماً بالنسبة لي، مكان تتصارع فيه تواريخ سياسية متعادية. فالعمران المنتمي هو وسكانه إلى الحقبات العثمانية لا يزال سياسياً مشدوداً إلى ثقافة ووجدان وتقاليد وتعابير متمنّعة تماماً ومنفصلة نسبياً عن الأمكنة "الحديثة" التي تحمل معالم البرجوازية الناشئة في الأربعينات والخمسينات وحتى مطالع الستينات، والتي تحمل أيضاً علامات تبني تقاليد وأساليب عيش وطقوس المجتمع الحديث ومظاهره. وهي بدورها تبدو متنافرة مع العمران والاجتماع الذي نشأ وفق هندسة سياسية بعثية وهجينة، علامتها الأساسية البشاعة والضخامة والتقشف الجمالي. "حداثة" مستلهمة من هندسة سوفياتية منحرفة وشديدة التشوه، تدّعي الاشتراكية والتعريب.. و"الأصالة".
مع ذلك، كانت دمشق بالغة الرحابة بهذه الفسيفساء الغريبة، ربما لأن سكانها كانوا واسعي الحيلة في حماية جمالها المخبأ في الأحياء القديمة وأمكنتها العريقة، التي تقاوم الزمن وتتجدد بحرص الدمشقيين على صون هويتهم (السياسية-العمرانية)، وإصرارهم الغامض على التواضع في المعيشة والإلفة الاجتماعية، وسهولة الاختلاط الطبقي مقارنة بالمدن الأخرى.ما كان يغريني في دمشق، وعلى نحو مفارق، بطء الزمن فيها مقارنة ببيروت. فدوام الأشياء إلى أمد طويل، والهدوء، وحضور الماضي والعتق وانسياب الحياة على مهل، كان يشعر زائرها بالدعة ولطف الوقت.
ما كان يخيفني في دمشق، ومنذ اللحظات الأولى لاجتياز الحدود هو هذا الاستنفار العسكري الدائم، وهذا الحضور الهائل للأنصبة والصور واليافطات والشعارات وأصحاب البدلات العسكرية والحواجز وأولئك الذي تزنر خصورهم المسدسات. وبالطبع، وجه الأسد الأب، المتجهم والقليل التعبير، الفقير الإيحاءات، منسوخ ومتكرر في كل مكان، كعقاب بصري بلا توقف.كانت دمشق هكذا، مدينة بهية و"محروسة" برثاثة عسكرية، وبفضاء مملوء بالتخويف والوعيد، وبصورة واحدة منتشرة كهيستيريا لبورتريه "السيد الرئيس". إلحاح عدائي بلا كلل على عدم إغفال ولو لدقيقة وجود هذه الهيمنة الشخصية، القلقة والمرتاعة والمصابة ببارانويا أن ينسى أو يتجاهل مطلق إنسان الحضور الثقيل والمخيف لصنمه.
أكثر ما كان يدهشني في دمشق، لطافة المجتمع ورقيه مقابل قساوة السلطة ووضاعتها. حيوية وإبداعية نخبتها الثقافية وشغف السكان بالقراءة والفنون والمسرح والسينما ورغبتهم الجامحة بكل ما هو جديد وغريب، مقابل تفاهة السلطة وركاكتها الفكرية واللغوية، بل أيضاً انحطاط ذوقها وميلها إلى التسفيل والبذاءة الاجتماعية. وعلى الأرجح، مصدر كراهية النظام لدمشق نابع من شعوره بالدونية إزاءها. وهو بالضبط ما مارسه مع اللبنانيين وللسبب عينه.بعد عشرين عاماً من الغياب القسري، وبعد 12 يوماً على تحريرها، ننطلق من بيروت إليها. هذه المرة سنعاين الرثاثة التي استحكمت بلبنان على نحو مكثف هنا عند معبر المصنع: عائلات وشاحنات باكتظاظ فوضوي ومنشآت ودوائر رسمية وأمنية ضيقة وقذرة ومتهالكة، وإجراءات غير مفهومة، وضجيج وتقافز، هرج ومرج واستهتار. فشل بيروقراطي وفقر حال دولة وتسيّب سلوكي، يجعل تجربة عبور الحدود مدعاة للشعور بالعار والخجل والتأسف على بلد فقد الكثير من مدنيته.
نقطة "المصنع" ومساربها غير واضحة. كأن ثمة غموضاً متعمداً للدخول والخروج من هنا ومن هناك، على جنباته، ما يوحي أن هذه الحدود ما زالت محكومة باعتبارات كثيرة تعلو اعتبار سيادة ونظامية الحدود برمتها. أو كأن تعديلات سياسية وأمنية وجمركية متراكمة ومتشعبة تجعل المعبر يشبه المتاهة.
آلاف العائلات ومئات الشاحنات محشورة هنا، ورغبة عارمة بالعبور إلى سوريا. بشر يتدافعون ليلاً ونهاراً، وبضائع لا حصر لها تتجه نحو بلد متعطش لكل شيء. كأن سداً كان يحجز سوريا وانهار، فتدفق الناس والأشياء نحوها.وعلى عكس كل الماضي، نتنفس الصعداء أننا خرجنا من لبنان إلى سوريا. مفارقة سياسية تفضح ما آلت إليه أحوال لبنان. وهذه المرة، لا يجهز السائق علب "المارلبورو" ولا ربطات الخبز، ولا كمشة الليرات، ليوزعها على عناصر حواجز المخابرات والجمارك والجيش السوري. ولا نبدأ بالتوجس من الوقوف في جديدة يابوس عندما كانوا يأخذون منا الهويات، ونروح نتوسوس من أن نستدعى إلى غرفة الضابط، أو أن يتعمد عنصر الحاجز إنزال شابة من السيارة إن أعجبته وأراد أن "يتسلى".
هذه المرة، سيكون المشهد الأول صورة عملاقة ممزقة للأسد الهارب. شابان من "الإدارة العسكرية" بملابس عسكرية مرتبة. يبتسمان: أهلاً وسهلاً، مع السلامة. وبلا أي سؤال.على جنبات الطريق سيارة محترقة، وقد غطتها ثقوب الرصاص. بقايا معركة سقوط النظام. ثم بسطات متتالية لعبوات وغالونات البنزين "المستورد" من لبنان، يقصدها الكثير من دمشق وريفها بسبب نقص الإمدادات النفطية في سوريا اليوم.
ينكشف أمامنا الريف الشاسع، كبلاد استيقظت للتو تحت نور الشمس الساطع. فيما تبدو مشاريع إسكان الضباط وعائلاتهم، كلطخة بشعة أو كجريمة عمرانية تذكرنا باقترافات النظام حتى ضد الطبيعة. نقرأ أسماء القرى، فتعود لنا أصداء حرب الجيش الأسدي عليها: هنا حاصر وجوّع، هنا الرصاص الحي بوجه تظاهرة، هنا مجزرة بالعائلات، هنا حاجز الفرقة الرابعة المخيف، هنا اجتاح حزب الله وقصف ودمر. هنا أقام ماهر الأسد أوكاره ومصانع الكبتاغون، هنا أنفاق ومستودعات أسلحة.
ريف شاسع بخيراته، كأنه يبتدئ حياة بلا كوابيس.. بلا حواجز ودوريات رعب، مفتوح لنا بترحيب لا تحفّظ فيه، يمنحنا هواء منعشاً كهدية أولى من هذه الـ"سوريا الحرة".
وكانت دقات القلب تتسارع، كلما اقتربنا من دمشق.
(يتبع)