بات واضحاً وبما لا يدع مجالاً للشك ما ذهبنا إليه منذ اللحظات الأولى لجهة أن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، بمثابة حدث تكتوني- زلزالي، ترك ويترك وسيترك تداعيات هائلة على المنطقة برمتها وربما العالم أيضاً. وبالتأكيد تنطبق هذه القاعدة على الحالة الفلسطينية، بمعنى أن سقوط النظام ترك وسيترك تداعيات هائلة على الساحة السياسية والقضية بشكل عام على حد سواء فيما يخص الفصائل والطبقة السياسية في سوريا أو حتى في غزة ورام الله والشتات بشكل عام.
وفيما يخص الطبقة السياسية والفصائلية الفلسطينية في سوريا، فنتحدث أولاً عن القيادة العامة، التنظيم الذي تباهى دوماً بأنه جزء من نظام الأسد وعندما يسقط النظام يفترض أن يسقط هذا التنظيم بالتبعية، مع انخراطه بحرب وجرائم النظام ضد السوريين والفلسطينيين على حد سواء، وحضوره المتواضع وحتى الصفري بالمقاومة في السنوات والعقود الأخيرة ضد إسرائيل، مع تبجح وتفاخر بمعسكراته وقواعده في لبنان التي مثلت اعتداءً صارخاً على السيادة اللبنانية و إرادة قيادته الشرعية ومزاجه الشعبي العام، خصوصاً مع وضعها بخدمة نظام الأسد وسياساته القمعية والإجرامية وممارساته سيئة الصيت في لبنان.
تنظيم فلسطيني آخر في سوريا – الصاعقة- يمثل جزءاً من النظام أيضاً باعتباره الفرع الفلسطيني لحزب البعث البائد، وهو أيضاً ودّع ساحات المقاومة منذ سنوات بل عقود طويلة، وتحول فعلياً إلى ذراع أمني للنظام ضد الثائرين والمنتفضين الفلسطينيين والسوريين بما في ذلك تشكيل مجموعات وميليشيات عسكرية سيئة الصيت انخرطت بقوة في الجرائم ضد المدنيين. وفي كل الأحوال مبدئياً ومنهجياً أيضاً، عندما يغلق حزب البعث أبوابه في سوريا، فيفترض أن يفعل الفرع الفلسطيني – واللبناني - الشيء نفسه.
أما بقية الفصائل اليسارية سواء الكرتونية والمنقرضة منها أو الجبهتين الشعبية وبدرجة أقل الديموقراطية، فقد كانت بمثابة شهود زور على الأوضاع في سوريا مع تبني رواية النظام تجاه الثورة والمؤامرة الأممية المزعومة، والتنكر لمطالب السوريين المتماهية أصلاً مع مطالبنا كفلسطينيين - الاستقلال والحرية وتقرير المصير - والصمت عن ممارساته وجرائمه ضم السوريين والفلسطينيين بما في ذلك تدمير مخيمات اللاجئين وتشريد أهلها، كما تناست وتنكرت للإرث الخالد للقائدين المؤسسين - ياسر عرفات وجورج حبش - ورؤيتهم لنظام الأسد الساقط باعتباره خطراً استراتيجياً على القضية الفلسطينية، ناهيك عن صمتهم المدوي والمخزي تجاه حرب الإبادة في غزة رغم التباهي بعضويته بل مركزيته في محور المقاومة المزعوم.
هذا كله حصل رغم قناعة الفصائل المتجذرة بحقيقة كون النظام عبء على السوريين والفلسطينيين، ويتاجر بالقضية كما كانوا يتحدثون في مجالسهم الضيّقة والآمنة خاصة خارج سوريا.
أما حركة الجهاد الإسلامي، فقد تماهت للأسف مع الحشد الشعبي الإيراني بالمعنى الكامل والدقيق للمصطلح، وتساوقت تماماً ليس فقط مع رواية النظام وصمتت عن جرائمه بحق الفلسطينيين والسوريين، وإنما مع السردية الإيرانية العامة وميليشياتها الطائفية وسياساتها الاستعمارية في طول المنطقة العربية وعرضها، في تنكر فظّ لإرث الشهيد المؤسس فتحي الشقاقي والمزاج العام لمعظم عناصر الحركة ومؤيديها.
والآن، وفيما يخص أكبر حركتين على الساحة الفلسطينية أي فتح وحماس، فالأولى بالغت في علاقاتها بالنظام، وتصرّفت - دون ان تكون مضطرة لذلك - وكأنها جزء من المنظومة الرسمية العربية الداعمة له، وتناست أيضاً إرث ومقولات عرفات والحرب المسعورة التي خاضها نظام الأسد ضده بصفته رمز للحركة والمنظمة والثورة الفلسطينية المعاصرة بشكل عام. وفي السياق، فقد بلغت الانتهازية والخفة حد احتفال الحركة ذات مرة بذكرى انطلاقاتها الخالدة على أنقاض مخيم اليرموك بالمعنى الحرفي للكلمة.
وأما الثانية، فثمة رواية تجب أن يروي حيث خرجت حماس - خالد مشعل – من دمشق في 2011، إثر رفضها تبني رواية النظام عن المؤامرة المزعومة وانحيازها إلى الشعب السوري وثروته ومطالبه المحقة والعادلة وتقديم نصائح للنظام من موقع الصديق بالإنصات إلى الشعب ومطالبه. ثم تبدل الحال مع حماس يحيى السنوار، في 2017، وعودتها معتذرة إلي دمشق قبولاً لوساطة إيران وحزب الله، دون أن يسمح لها النظام بإعادة افتتاح مكتبها في دمشق، رغم التنازلات التي قدمتها وانضوائها بمحور الممانعة المزعوم مقابل ابتداع مصطلح وحدة الساحات لنجدتها في أي حرب محتملة مع إسرائيل، وهو ما اعتمدت عليه في تخطيط وتنفيذ عملية طوفان الأقصى التي رفض الأسد الانخراط الجدي فيها كما حلفاؤه أيضاً، وعملياً فقد تركوا حماس وحيدة في الساحة تحت نار الاحتلال وجبروته وجرائمه وارتكابه إبادة جماعية موصوفة وموثقة ضد غزة وأهلها.
في ضوء ما سبق، بدأ أمر لا يصدقه العقل. مبادرة الفصائل نفسها إلى الاجتماع في مقر السفارة الفلسطينية بدمشق، بزعم تمثيلها اللاجئين في سوريا والإعلان عن تشكيل ما وصفته بهيئة العمل الوطني الفلسطيني في سوريا وادعاء دعم التغيير وتأييد مطالب السوريين بالحرية الكرامة وتقرير المصير. دون أي مراجعة أو اعتذار من السوريين والفلسطينيين.
ببساطة يمثل هذا تشبثاً بالسلطة والصفة غير التمثيلية وهروباً من تحمل المسؤولية واستخلاص العبر، بعدما ربطت معظم الفصائل مصيرها بالنظام بطريقة أو أخرى، ما يعني بالضرورة أن لا مكان لها في سوريا الجديدة تماماً كما النظام الساقط.
في الأيام الأخيرة أيضاً، أبلغت القيادة السورية الجديدة الفصائل بضرورة إغلاق المعسكرات والقواعد خارج المخيمات وتنظيم حمل السلاح الفردي داخلها بشكل مؤقت، علماً أن هذه المعسكرات وحتى الفصائل نفسها، كانت عبئاً على الفلسطينيين وفعلياً خارج دائرة المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وبخدمة النظام الأسد الساقط وأوامره وجرائمه في سوريا ولبنان، وأيضاً وعائق أمام علاقة طبيعية مع السوريين واللبنانيين أيضاً.
مقابل هذا رأينا بيان المؤسسات والجمعيات الفلسطينية الأهلية الرافض لجبن الفصائل وهروبها من تحمل مسؤولية أفعالها ومواقفها والتبرؤ منها وإصرارها على البقاء عنوة في المشهد. كما عبّر البيان من جهة أخرى عن العقل الجمعي للاجئين الفلسطينيين والحاجة للتموضع ضمن سوريا الجديدة ومواصلة النضال المشروع تجسيداً للذاكرة الحية حتى تحقيق الآمال الوطنية المشروعة بالعودة والاستقلال وتقرير المصير.
وخارج الدائرة السورية الجغرافية المباشرة والفصائل الفلسطينية فيها، ولكن مع البقاء في دائرتها بالمعنى التاريخي والجيو-بوليتيكي، لا شك أننا كفلسطينيين مطالبين على المستوى العام، وتحديداً وفي غزة ورام الله، باستخلاص العبر بشكل جماعي، خصوصاً بعد نكبة 2024، لجهة حتمية شق مسار وطني انتقالي عبر عقد سياسي اجتماعي جديد وقيادة ديمقراطية شابة ونزيهة لمواصلة النضال من أجل تحقيق الآمال الوطنية المشروعة - كما إخواننا السوريين - في العودة والاستقلال وتقرير المصير.