2024- 12 - 25   |   بحث في الموقع  
logo مِنحة تشريعيّة “للبدايات البيضاء”!.. بقلم: د. رنا الجمل logo جنبلاط وترشيح عون.. توقيت خاطىء؟.. عبدالكافي الصمد logo الايجابيات الرئاسية تتراجع.. من يقصد باسيل بمرشح التوافق؟!.. غسان ريفي logo : تهنئة من القلب في عيد الميلاد logo العودة إلى دمشق: المدينة التي كرهتها وأحببتها دوماً (1) logo هوكشتاين وإنجاز الرئاسة بعد وقف النار logo المجلس الوطني التركي..حبل النجاة الآخير لقسد قبل الزحف العسكري logo حصاد ″″: أهم وأبرز الاحداث ليوم الثلاثاء
في حضرة الركام!
2024-12-24 13:25:43

في ليلة مظلمة من العام 1940، كان والتر بنيامين يفر من النازيين عبر جبال البرانس، يحمل في حقيبته القليل مما تبقى من حياته: مخطوطات لم تنشر، وأفكار مكتوبة على عجل، وصورة لملاك صغير بريشة بول كلي، تُدعى "أنجِلوس نوفوس". لم يكن هذا الملاك مجرد لوحة بالنسبة لبنيامين، بل كان رمزاً لرؤيته للتاريخ وللعالم الممزق من حوله.
يتصور الفيلسوف الألماني ملاك التاريخ واقفاً على كومة من الركام بفهم مفتوح وعينين شاخصتين نحو الماضي. "إنه يبدو كمن يهم بالابتعاد عن شيء يتأمله، حيث نرى سلسلة من الأحداث، يرى هو كارثة واحدة فقط، كومة من الحطام تتكدس أمام قدميه".يود هذا الملاك لو يوقظ الموتى ويجبر الكسور، لكن العاصفة تدفعه الى المستقبل من دون توقف. "هذه العاصفة هي ما ندعوه التقدّم،" قال والتر بنيامين في آخر نصوصه، "أطروحة عن مفهوم التاريخ"، قبل انتحاره على الحدود الفرنسية-الاسبانية لفشله بالعبور الى الأمان.التاريخ، بالنسبة لبنيامين، ليس تقدماً مستمراً نحو المستقبل بل كومة من الخراب المتراكم بفعل الحروب والصراعات والكوارث. إن رؤية بنيامين للدمار تتجاوز كونه فعلاً سلبياً، بل هو لحظة تعر للتاريخ، فرصة للتفكير في كيفية إعادة البناء من دون تكرار الأخطاء. وفي مقولته الأيقونية " لا توجد وثيقة حضارة إلا وهي في الوقت ذاته وثيقة بربرية،" يختزل بنيامين حقيقة مأساوية مفادها: كل بناء عظيم يحمل آثار الخراب الذي سبقه، وكل مدينة مزدهرة تخفي بين شوارعها ذاكرة المعاناة.أتذكّر تلك اللحظة العام 2006، حين عدنا إلى المدرسة بعد العطلة الصيفية التي حملت معها الحرب والتهجير والدمار. كنا، نحن طلاب الصف السابع، متشوقين لرواية قصص وتجارب الحرب الشخصية. سرعان ما اتخذ الحديث منحى تنافسياً بين أبناء القرى، فراح كل منا يتفاخر بقريته، وبما قدمته لـ"المقاومة والنصر": "أول صاروخ أُطلق من قريتنا"، "أكبر عدد من الشهداء من قريتنا"، "قريتنا قدمت العدد الأكير من المقاومين".اشتدّت بنا الحماسة حتى بات الدمار عاملاً أساسياً في تحديد القرية الرابحة، فصاح أحدهم "أول بيت دمرته الحرب كان في قريتنا". عندها استوقفتنا المعلمة بدهشة: "أتتنافسون حقاً على من نال النصيب الأكبر الدمار؟"18 عاماً تفصل بين جولتي الأولى والثانية وسط أنقاض مدينتي، النبطية. ما يقارب العقدين من الزمن ومازال الدمار هو التعبير الأوضح والأكثر مادية عن تجربتنا المشتركة. وبين الجولة والجولة، ازدهرت المدينة وانتشر فيها العمران. انمحت آثار الحرب وطمر الركام، لنعود ونواصل صراعاتنا على صفحة بيضاء، جاهزة للتلطخ بالدماء والغبار في الحرب المقبلة.وهكذا كان. جاءت الحرب المتوقعة لأن الحروب في لبنان المأزوم دائماً متوقعة، لتعيد بعثرة ما تم بناؤه خلال عقدين، وعلاوة عليه ما يعود إلى قرن للوراء. لا يسعنا أمام كل ذلك إلا أن أتساءل: متى الجولة الثالثة يا ترى؟"منعمرها أجمل مما كانت،" هو الشعار الرسمي لمرحلة إعادة الإعمار بوصفه تحدياً. أما الواقع، فيقول غير ذلك، لأن المال والاسمنت والمخططات العمرانية لا تكفي للملمة أشلاء المدينة واعادة ترتيبها على هيئة بيت أو وطن. يشعر كثر من العائدين إلى الجنوب والبقاع والضاحية بالغربة وسط ركام بيوتهم وقراهم، خصوصاً وأنها باتت عارية أمام عاصفة التاريخ. ورغم أنها ليست التجربة الأولى لهم مع الدمار، لكنها الأكثر انكشافاً على الحقيقة. ففي هذه الحلقة المفرغة من الدمار الذي يعقبه بناء، يتساءل كثيرون عن جدوى إعادة بناء بيت أو مدينة سوف يكونان رهن الصراعات والتسويات المقبلة.هنالك ما يشد سكّان المناطق المدمرة اليوم إلى أنقاض مدنهم وقراهم، بما تجسده من محاولة غير مكتملة للبقاء. بخشوع، يقفون على الأطلال، محاولين اعادة ترميمها في أذهانهم. تخذلهم الذاكرة كما خذلهم كل شيء آخر. وسط الركام، يخيم الصمت، أو بالأحرى صوت فقدان الزمن لذاته. لا يعود للمكان معنى زمني أو وظيفي. يتحول إلى مساحة مفتوحة للتأمل، للحزن، وربما للحلم.لكن مع تغلب المأساة على الحلم، وهذا ما لم نختبره في الحرب السابقة، يسود هذه المرة شعور بصعوبة التخلي عن الركام. يقول الكاتب جايمس جوي أن الغياب هو أعلى درجات الحضور. إن كان لهذه المقولة من تجسيد مادي فهو الركام، تلك المساحة الرمزية التي تجمع بين الحضور والغياب.يخيل لي أن اللحظة الأصعب في حياة أي مبنى، بعد لحظة تدميره، هي تلك اللحظة التي تُرفع فيها أنقاضه ويكنس غباره. بالرغم من اختلاف النوايا، لا تقل آلة البوبكات عنفاً عن الطائرة الحربية. فهي، برفعها الأنقاض، تدفن الشاهد الأخير على حياة كانت هنا ولم تعد.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top