مع كل موجة تصعيد واعتداء إسرائيلي ضد الفلسطينيين والعرب، تفعّل تل أبيب دعايتها القائمة على "سردية الجار"، وكأن الصراع الجاري في المنطقة منذ أكثر من 100 عام يدور بينها كـ"جار خير" وعدوها "الجار الشرير"! وهي سردية لطالما مارستها إسرائيل منذ لحظة نشوئها، لتسويغ احتلالها واعتداءاتها في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وأيضا ضد فلسطينيي 48، وبالتأكيد في حالة لبنان وسوريا في الأسابيع الأخيرة.
وتعطي سردية الجار التي تثيرها الدولة العبرية، لمحة عما ما يدور في عقلها الباطني، والذي يرفض الاعتراف بأن الصراع مع دول وحدود، بموازاة محاولتها تسخيف وتسطيح الصراع وكأنه مع مجموعات وأشخاص يندرجون تحت وصف "الوحوش".وبتقريب المجهر من سوريا على ضوء الأحداث الأخيرة، فإن الإعلام العبري، ومنشورات إسرائيلية في السوشال ميديا، ركزت على الترويج لهذه الدعاية بشكل لافت، عبر القول أن "إسرائيل اضطرت لاقتحام الأراضي السورية لمنع اقتراب الأشرار من الحدود"، ثم إظهار الجيش الإسرائيلي المتوغل في الأراضي السورية، في صورة "الحامي للأقليات" في سوريا.وعبر عن ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علانية، بقوله قبل أيام: "إننا نمد يد السلام إلى جيراننا الدروز في سوريا، وكذلك إلى الأكراد والمسيحيين والمسلمين السوريين الذين يريدون العيش بسلام مع إسرائيل"، بينما يتناسى نتنياهو أنه المبادر في الاعتداء على سوريا، سواء بالقصف الجوي الذي كان الأعنف على الإطلاق، أو التوغل براً، إثر سقوط نظام الأسد.ولعل ما كشفته التسريبات الإسرائيلية بشأن إقرار تل أبيب خطة الهجوم على سوريا قبل أيام من سقوط النظام، يؤكد زيف سردية "الجار" التي يروجها الاحتلال في سياق إظهار نفسه "مدافعاً" لا "معتدياً". وتخلق إسرائيل بهذه السردية شيئاً من الكوميديا السوداء التي تتجلى أكثر عند قولها أن سيطرتها على أراضٍ في الجنوب السوري، مرتبطة بلحظة تأكدها من أن "جاراً جيداً" هو من سيحكم دمشق، بعد سيطرة فصائل المعارضة على السلطة أخيراً بعد أكثر من عقد على الثورة في البلاد.وفي إطار هذه الدعاية، وجد مراسل قناة "كان 11" العبرية، إيتاي بلومنتال، ضالته، بدفتر تركه جندي سوري في ثكنة ببلدة كودنة بالقنيطرة، قبل انسحابه رفقة زملائه فور سقوط الأسد. وركز المراسل الإسرائيلي الذي دخل إلى البلدة السورية رفقة الجيش، على كلمات عبرية مكتوبة في دفتر الجندي السوري، مثل "شروق، باب، منزل، حدود، دمشق"، ما فسره المراسل الإسرائيلي، بأنه يؤشر إلى أن الجندي السوري كان يتعلم اللغة العبرية في أوقات فراغه للتعرف على "جاره" الذي يبعد عنه 4 كيلومترات... وكأنه يلمح إلى افتراضه بأن هذا الجندي "جار جيد"، بموازاة شيطنة المعارضة ضمنياً.وواكب الإعلام العبري تعزيز تلك السردية، عبر نشر تقارير تدعي استقبال أهالي بلدات سورية للقوات الإسرائيلية التي توغلت فيها مرة أخرى بعد 51 عاماً، بـ"سعادة وحفاوة"، بينما نشر إسرائيليون في موقع "إكس"، وأيضا صحيفة "يسرائيل هيوم" مقطع فيديو مزعوماً، يظهر اجتماعا لأهالي قرية الخضر الدرزية السورية، "عبروا فيه أخيراً عن رغبتهم في الانضمام إلى إسرائيل"، على حد الادعاء العبري، فيما نفت تلك المعلومات وسائل إعلام سورية.وهذا يعني أن سردية "الجار" تطوعها إسرائيل بالحالة السورية، لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فتارة لتسويغ عدوانها، تحت حجة حماية أمنها، وتارة أخرى لـ"حماية الأقليات". وبالطبع، يُضاف إلى ذلك هدف آخر متمثل بجعل الجدل داخلياً بين السوريين، وليس مع إسرائيل، في محاولة لإظهار السوريين "مختلفين على معاداة إسرائيل".وفي حالة لبنان، واظبت البروباغندا الإسرائيلية على اعتبار "حزب الله" هو المعتدي، والبادئ بالحرب، ودفعت نحو إثارة جدل لبناني داخلي بشأن المواجهة. كما سعت إسرائيل إلى نشر دعاية بشأن تمييز جيشها بين "الجار الجيد" و"الشرير" في لبنان، وبطريقة لا تخلو من إثارة الفتنة الطائفية والدينية ودق الإسفين بين اللبنانيين، بالزعم أن "الدمار في القرى المسيحية المجاورة للحدود أقل من الدمار الذي أصاب القرى الشيعية.. وهو دليل على تمييز جيش إسرائيل".أما في غزة، فروج الاحتلال لنفسه كـ"جار جيد"، عبر بث جيشه صوراً مزعومة أظهر بعضها جندياً إسرائيلياً "يمنح طفلاً أو امرأة قارورة ماء أو طعام"، بينما كشفت مشاهد أخرى لحظة قتلهم من قناص إسرائيلي بعد التقاط الصورة.كما خصصت تل أبيب للضفة الغربية خطاباً دعائيا مترافقاً مع عنجهيتها على الأرض، بالقول أن الجيش دمر البنى التحتية في شمال الضفة، واستخدم أسلوب الاغتيال جواً لأن فيها "أشراراً كثراً"، وهو أسلوب قصد الاحتلال من خلاله أيضاً أن يثير فتنة ومزايدة وطنية بين الفلسطينيين الذين قسمهم إلى مناطق وكانتونات، وذلك لضرب تماسكهم، وكأنهم "كنتونات وقبائل" متناثرة!.والواقع أن سردية "الجار" الإسرائيلية نجحت، أحياناً، في أن تلقى من يصدقها من بعض العرب، وسط انعدام السردية العربية المضادة، والقادرة على المواجهة دائماً لزيف سردية الاحتلال، وليس فقط بالمناسبات، باعتبار أن تلك السردية وسيلة إسرائيل لتسطيح الصراع، وعدم الإقرار فعلياً بأن ما حصل من أحداث غير مسبوقة في المنطقة برمتها منذ أكثر من سنة، هي نتيجة عدم وجود حل حقيقي للقضية الأم، عدا أن انعدام أي أفق لحل قضايا المنطقة، أدى تراكمياً إلى انفجار برميل البارود كنتيجة حتمية.ولفهم عقلية إسرائيل، فإنها تلجأ إلى دعاية "الجار"، بموازاة تعمدها حصر تفسيرها لأحداث المنطقة وتطوراتها بمنطور "أمني" فقط، وترفض أن تفسرها في سياقها السياسي، لأنها إن فعلت ذلك، فإنها تكون قد نسفت أساس دعايتها، وستكون قد أقرت بمظلومية الفلسطينيين والعرب، ما يستدعي تنفيذ الاستحقاق المتمثل بإيجاد حلول سياسية جذرية لأصل الصراع، وهو ما لا تريده الدولة العبرية التي ترغب بحلول هامشية أو ترقيعية، تحوم حول المنطق الأمني، وذلك لضمان مواصلة سطوتها واعتداءاتها وقتما شاءت، وأينما أرادت، ولأي سبب، وعلى نحو يفرض وجودها في المنطقة كجسم طبيعي.