تتشكل الهوية الوطنية لشعب أو وطن ما عبر مئات السنين، وتساهم في هذه الصيرورة كل مكونات الشعب، لا بل أن التنوع العرقي واللغوي والديني للشعب أو وطن ما يعد غنى لهذه الهوية.
يبقى أن هناك خطراً حقيقياً يهاجم هذه الهوية الا وهو أن ينقلب التنوع السابق نقمة بدل أن يكون نعمة، عندها يقع المحظور وتصير الهوية الوطنية ضبابية وعورة!
والحق أن ثمة حقيقة ثابتة أننا في سوريا لم نشكل هوية وطنية محددة وجامعة منذ الاستقلال عن المحتل الفرنسي. طبعاً، لا بد من الاعتراف أن الدور الأكبر في ذلك يعود ببساطة إلى النظام السابق الذي بنى منظومته على مقولة "سوريا الاسد" وغرسها في عقول الجميع. لقد دمرت هذه المقولة، بأبعادها المتعدّدة، كل المحاولات لبناء هوية وطنية ثابتة ومحدّدة. حاول النظام السابق حجب هوية الوطن من خلال ربطها باسم عائلة الرئيس. فصارت كل مرافق الدولة والمجتمع ملحقة باسم الأسد: من مكتبة الأسد إلى دار الأوبرا إلى ملاعب الرياضة وصالاتها، إلى كل شيء مهما صغُر أو كبُر. لم يكن هذا مجرد إجراء عادي بل سياسة ممنهجة ومدروسة للعبث بهوية الوطن. وبالرغم من قسوة هذه التسميات، التي حاكى حولها السوريين العديد من القصص والروايات المضحكة يروونها في الخفاء، الا أنها لم تنفع في شيء إلا في زيادة النفور من نظام شمولي وديكتاتوري.
وعليه، ومع فشل بناء الهوية الوطنية الجامعة، نمت الهويات الأخرى على حسابها وابتلعتها، وهي كلها بطبيعة الحال هويات ما "تحت وطنية"، إما طائفية أو قومية. ان هذه الهويات الأصغر سمّرت في العقول فكرة الطائفة والعرق، على حساب الهوية الوطنية، فصار الانتماء للطائفة أو القومية أو العشيرة من باب أوّلى كملاذ وحصن، لا بل وصار الشعور الوطني السوري ثانوياً بسبب ممارسات النظام السابق من جهة، وبسبب الانتماءات الجغرافية والدينية والعرقية من جهة أخرى.
الفراغ الذي تركه غياب الهوية الوطنية السورية عمّق الحاجة إلى هويات ثانوية ما تحت وطنية، فصارت العشائر على الحدود مع العراق والأردن،على سبيل المثال، تولي العشيرة أهمية أكبر، وصار الأكراد والدروز والشركس يبحثون عن ولاءات إقليمية تجعلهم يشعرون بالانتماء في ظل ضعف الهوية الوطنية الجامعة. وفي السياق نفسه، صار المسيحيون يشعرون بأن دولاً بعينها قد تؤمن لهم الحماية، وكذلك ظن السنة بدول الخليج وغيرهم.
لم يكن النظام السابق ليحسن بطبيعة الحال "إدارة التنوع" على مساحة الوطن السوري، لا بل أساء إدارته من خلال ممارسات ظنّ أنها تخدم الحالة الوطنية. ممارسات قامت على الفرض والإكراه، فمنع، على سبيل المثال، تعليم اللغات القومية: الكردية، أو الآشورية، لا بل إنه كرّس استعمال اسماء أطلقت في غير حقبة على مناطق محددة لطمس هويتها، مثل: جبال العلويين ووادي النصارى وجبل الدروز، بحجة محاربته الطائفية!
ان تشظي المجتمع السوري خلال الخمسين عاماً الماضية، وبالتحديد خلال الـ14 عاما الماضية، تجعلنا بحاجة اليوم، أكثر من ذي قبل، إلى الشروع في عملية صياغة هوية وطنية جامعة لكل السوريين، لا تقوم بأي حال من الأحوال على طمس التنوع، بل بالعكس، فإنها تقوم باستيعابه كاملاً ودمجه في الهوية السورية الوطنية الجامعة. وهذا الأمر لن يتحقق إلا عندما يشعر الجميع أن سوريا هي وطن كل السوريين، ليس من باب الشعارات الفارغة التي سأم منها الناس خلال الحقبة الماضية، بل عبر المشاركة وخلق المساحات اللازمة للتعبير على الهويات المتنوعة وعبر ممارسات تصب في مصلحة الهوية السورية الوطنية الجامعة.أخيراً، لا يمكننا تجاهل الخطر المحدق بالهوية الوطنية السورية خلال الفترة المقبلة. إن الضامن الوحيد والحقيقي لعملية خلق هذه الهوية الوطنية هو الدستور والانتخابات. لقد قال الماغوط: "الوطن لا يخسر أبداً، بل نحن الخاسرون". دعونا لا نخسر هذه الفرصة التاريخية هذه المرة بعد أن خسرناها بالفعل سابقاً.