مهلة الستين يوما التي تضمنها الاتفاق اللبناني–الإسرائيلي لا تهدف الى اختبار النوايا، ولا الى اختبار مستوى التزام الطرف اللبناني، وحزب الله تحديدا، بالاتفاق. انها في واقع الأمر فترة سماح إضافية للطرفين لمحاولة استكمال اهداف الحرب في مرحلتها اللبنانية الخالصة بين أيلول وتشرين الثاني 2024.
في اي حرب تترافق مسارات ثلاث (على الأقل):
مسار عسكري يتمثل في المواجهات المسلحة والضربات المتبادلة بين الأطراف المشتركة في الحرب، وهو ما لخصه حزب الله بتعبير "الكلمة للميدان"، مع انه حصر الميدان في المواجهة البرية في الجنوب من دون غيره من ميادين المواجهة العسكرية المباشرة، في حين أن ميدان إسرائيل يشمل كل مستويات المواجهة العسكرية برا وبحرا وجوا، بالإضافة الى الحرب الاستخبارية. وقد انتهى هذا المسار الى خسارة واضحة وكبيرة لحزب الله ولبنان، دون ان ينفي ذلك المقاومة البطولية التي شهدتها قرى الجنوب في المواجهات البرية على نحو خاص.
مسار ديبلوماسي تمثل بشكل خاص بالتفاوض غير المباشر والمباشر (كي لا نتجاهل ان الولايات المتحدة الأميركية شريك كامل لإسرائيل في الحرب). الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل ولبنان/حزب الله مع مشاركة شكلية لدول اخرى. المسار الديبلوماسي هو بالتعريف مسار خارجي الفاعلون فيه هم من الحكومات، وهو يركز بشكل خاص على ضبط المسار العسكري في سياق العلاقات بين الدول المعنية، ولا ينظر الى الشأن السياسي الداخلي في البلدان المعنية (لبنان في حالتنا) الا من منظور السياسات الدولية الإقليمية. كانت نتيجة هذا المسار اتفاق ترتيبات وقف الاعمال العسكرية بين لبنان وإسرائيل ومن ضمنها فترة الـ 60 يوما. وهذا الاتفاق اقل ما يمكن ان يوصف به هو انه اتفاق اذعان للبنان، واستسلام غير معلن لحزب الله.
مسار سياسي داخلي يشكل اطارا لتفاعل المكونات اللبنانية الداخلية من مؤسسات سلطة، وأطراف سياسية، وقوى مدنية، وحركات اجتماعية وشعبية ومجمل المواطنين، يمكنّهم من ابداء الرأي والتأثير في الحرب ومساراتها، وفي المسار الديبلوماسي، وفي البحث في ما يسمى "اليوم التالي" لوقف اطلاق النار المؤقت، واليوم التالي لانتهاء مهلة الـ 60 يوما. كما يفترض ان يطال التأثير المواطني المسار السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي في لبنان، وسياساته الداخلية والخارجية، للمرحلة الراهنة وللمستقبل، بما يعالج آثار الحرب وغيرها من مشاكل الدولة والنظام والمجتمع، ويحول دون تكرارها مستقبلا. هذه المسار كان مغيبا تماما عن المشهد على امتداد الحرب (وقبلها)، ولا يزال مغيبا، كأن اللبنانيين لا شأن لهم في تقرير مصيرهم.
وظيفة اختبار النوايا أو الالتزام امر ثانوي. الوظيفة الفعلية للمهلة المشار اليها، واي مهلة أخرى يمكن ان تمدد لها، هي اتاحة حيز زمني إضافي كي يتمكن المتحاربون والمشاركون في المسارين العسكري والديبلوماسي من تحقيق المزيد من أهدافهم الاصلية المتعلقة بلبنان تحديدا. وهي اهداف تطال خطوط الصراع والتفاوض بين لبنان وإسرائيل من جهة أولى؛ واهداف حزب الله والتحالف الحاكم في الداخل اللبناني.بالنسبة الى إسرائيلتمثل مهلة الستين يوما حيزا زمينا إضافيا كي تتابع حربها من طرف واحد ضد لبنان من خلال استكمال عمليات الهدم والتفجير في القرى الحدودية وعلى امتداد مساحة لبنان (وسوريا، والحدود معها). وهي تعمل على ترجمة الخسارة العسكرية التي منى بها حزب الله ولبنان، الى خسارة سياسية دائمة وتحويل توازن القوى في هذه اللحظة التاريخية الى مكسب "دائم" محصن باتفاقيات دولية ملزمة عبر عنها المسار الديبلوماسي.
تحويل الخسارة الى هزيمة يعني إضافة البعد النفسي الى الخسارة العسكرية البحت. وقد دأب حزب الله على نفي واقعة الهزيمة، وانه ليس مهزوما من الناحية النفسية والمعنوية ("لست مهزوما ما دمت تقاوم"، العبارة المنسوبة الى المفكر الشيوعي الشهيد مهدي عامل). لذلك يتعلق الحزب بالجانب المعنوي كي ينفي صفة الهزيمة على نتائج الحرب متجنبا الاعتراف بانكساره الداخلي (وجه انهيار نظام الأسد ضربة معنوية قاسية له). لكن ممارسة إسرائيل خلال مهلة الستين يوما، تهدف في جانب الى اذلال حزب الله، ولبنان، والشعب اللبناني، وكسر الممانعة النفسية والمعنوية والتهرب من الإقرار بالهزيمة. حزب اللهيحتاج الى مهلة الستين يوما كي يلتقط أنفاسه ويحد من خسائر الميدان. والاتفاق يمثل مخرجا له لوقف القتال الذي لم يعد قادرا عليه، ويمكنه من الزعم بانه يتصرف بمسؤولية وطنية للتخفيف من معاناة اللبنانيين. من ناحية أخرى، فإن تهدئة نسبية للمواجهة مع اسرائيل تمكنه من تركيز اهتمامه على "الجهة الداخلية"، اي على الاهداف اللبنانية الداخلية للحرب:
- أولا، حماية هيمنة لحزب على مؤسسات السلطة وعلى القرار الداخلي في لبنان؛
- ثانيا، محاولة تحييد أثر الخسارة/الهزيمة امام إسرائيل على التوازنات الداخلية وتجنب تقديم تنازلات امام الخصوم السياسيين في الداخل، او امام الشعب اللبناني.
لقد وجه سقوط نظام الاسد ضربة كبيرة الى هذا المسعى، لكن المسعى نفسه لم يتوقف. ويستند الحزب في ذلك، ومعه الحلفاء في مؤسسات السلطة، الى واقع عددي في مؤسسات الحكم وفي ادارة الدولة والاجهزة الرسمية منذ اتفاق الدوحة بشكل ممنهج (وقبله ايضا اثناء فترة الهيمنة السورية على لبنان)، بما يمكنهم من التعطيل والمساومة على ضبط اي تغيير محتمل ضمن تبدل في الحصص ضمن مكونات النظام. ويترافق ذلك مع استمرار استعراض القوة في الداخل والتمسك بالسلاح "شمال الليطاني".بالنسبة الى اركان السلطة(الحلفاء في التسوية الرئاسية، موروثات الهيمنة السورية، موروثات نظام الدوحة والهيمنة الإيرانية/الحزب الهية، الكومبارس من الفئة الأولى او الثانية والثالثة)؛ هؤلاء يريدون استخدام مهلة الستين يوما حتى ربع الساعة الأخيرة (وربما تمديدها)، من اجل الإبقاء على الفراغ الحالي وتأجيل إعادة تشكيل السلطة الى اقصى حد ممكن كي يتمكنوا من ترتيب امورهم، والاستمرار في النهب والتخريب الداخلي على كل المستويات، بما في ذلك تمكين إسرائيل من العربدة من دون حساب. كما يريدون المساومة مع الدول الخارجية (لاسيما الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، ودول عربية) من اجل الإبقاء على عملية اعادة تشكيل السلطة ضمن نطاق اللعبة التقليدية. لهذه الغاية هم مستعدون لتقديم كل التنازلات والتطمينات الممكنة للخارج (لاسيما لإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية) من اجل تمديد وجودهم في السلطة، ومنع أي خطة إصلاحية حقيقية. ان هدفهم الحقيقي هو عزل أي تأثير للمواطنين اللبنانيين وتشكيلاهم المدنية والسياسية الجديدة لاسيما التي تجلت او تشكلت في ثورة 17 تشرين 2019، من أي ان يكون لهم تأثير في تحديد مسار الإصلاح المستقبلي.
هذه هي وظيفة مهلة الستين يوماً.
1- لإسرائيل ان تمارس عملية اذلال وتكريس الهزيمة والاستسلام؛
2- لحزب الله ان يتملص من نتائج الميدان ومما وقع عليه من اتفاقات (العنوان الأبرز هو محاولة حصر المفاعيل بالجانب الإسرائيلي وجنوب الليطاني والإبقاء على السلاح في الداخل)؛
3- وللسلطة الغنائمية الفاسدة: استمرار الفراغ لتعطيل التأثير الشعبي، وتقديم كل تنازل ممكن للخارج مقابل انقاذ ما يمكن إنقاذه بعد التغيرات الناجمة عن الحرب وعن سقوط نظام الأسد.
24/12/2024