تستعجل ريما تبييض "ركوة" القهوة، قبل أن يقرر المبيّض في بلدتها "عرسال" المغادرة الى سوريا. فقبل مجيء النازحين السوريين تقول، "كنا إذا اسودت الركوة نستبدلها بأخرى، إلى أن اكتشفنا أن ثمة يد عاملة ماهرة يمكنها أن تعيدها أجدد مما كانت." تعدد ريما مهن كثيرة ولدت في بلدتها مع نزوح السوريين، وتتحدث عن خيارات من البضائع والمنتجات التي أتاحها هؤلاء، ولم يكن أبناء البلدة يعتقدون أنها تنقُصهم فعلاً، إلى أن أصبحت متوفرة. وعليه تؤكد بأن عودة السوريين الى بلادهم ستخلّف فراغاً كبيراً في هذه المهن، متمنية لو ان اللبنانيين لديهم اندفاعاً مثيلاً لممارستها.
لا شك أن الكثافة السكانية التي شهدتها عرسال وبعض قرى البقاع، والتي فاق فيها عدد النازحين من سوريا عدد أبنائها، شكلت عاملاً أساسياً من عوامل ازدهار المؤسسات والمحلات التجارية والمهن والحرف على مختلف أنواعها. إلا أن ما عزز ذلك، هو طبيعة البلدات ومجتمعها الريفي، حيث يعتبر مدخول العائلة محدوداً جداً، ويكاد توفيره يقتصر على رب الأسرة. أما الكثافة السكانية التي تسبب بها النزوح السوري، فقد ولّدت احتياجات طبيعية لهؤلاء، وهذه كانت فرصة بعض أصحاب المهن الذين خسروها في سوريا، لأن ينقلوها الى مناطق نزوحهم.مهن مقرونة بالسوريينتوتر العلاقة بين عرسال وجاراتها إبان حرب الجرود، ومحدودية الحركة التي فرضت على النازحين السوريين الى قرى الجوار اللبناني تحديداً، بموازاة إقفال منافذ المعابر البرية الجانبية من سوريا وإليها، كانت دافعاً أيضاً لأن يبحثوا عن تلبية طلباتهم داخل البلدة، فولدت لهم محلات ومؤسسات على مد النظر.
"الحاجة أم الإختراع" إذا في بلدة عرسال الواقعة على شفير حدود كانت مفتوحة طيلة سنوات ما قبل الاحداث بين أبناء القرى المتلاصقة. وكان العراسلة كما يروون يجدون كل احتياجاتهم عند جيرانهم، سواء على الضفة السورية من الحدود أو داخل الأراضي اللبنانية. بينما الجزء الأكبر من أبناء البلدة يعتبرون أن هوية اقتصادهم تبنيها مقالع الحجارة والبساتين التي يرثونها أباً عن جد، وفي الحد الاقصى ينخرط شبابها بالجيش، الى جانب من يهاجر منهم بحثاً عن إكمال دراسته أو عن مورد رزقه في الخارج.
قبل سنوات عندما زرنا عرسال إبان حرب الجرود التي ترافقت مع تدفق أعداد السوريين الى لبنان، كانت عرسال تفتقد لكل شيء تقريباً، وحركتها الاقتصادية محصورة في وسط البلدة. تبدل المشهد على طول الطرقات الرئيسية والفرعية في البلدة اليوم، وأصبحت تضم عدداً كبيراً من المؤسسات، معظمها يشغله مستثمرون سوريون. فكيف سيخلف هؤلاء مهنهم عند مغادرتهم لعرسال؟
يقول أبو عبده، وهو نازح سوري من بلدة القصير ويملك محلاً تجارياً يبيع أدوات منزلية، بأن المصلحة التي أسسها وكبرت في بلدة عرسال، تشكل حالياً عبئاً عليه. فهو راغب بالعودة الى سوريا فوراً، ولكن تصفية مؤسسته على مقياس شوقه الى بلده ستعني خسارة كبيرة في رأسمالها، وخسارة لتعب إثني عشر عاماً.
فعندما قرر أبو عبده إطلاق تجارته بلبنان حتى "يؤمن قوت أولاده" كما قال، لم يكن في جيبه سوى مليون ليرة، حينها كان الدولار بـ1500 ليرة، وكان مفصولاً من الأمم ويعلم جيداً أنه إذا أنفقها ستكون آخر ما يتوفر له من سيولة. قرر أن يشتري بها بضائع ويبيعها، ومن ثم من أرباحها أضاف إليها كميات جديدة، حتى أصبح لديه حاليا مؤسسة رأسمالها أكثر من خمسة آلاف دولار، على سعر صرف الدولار الحالي، مع تأمين معيشة لائقة لعائلته.
سألناه كيف كبرت مصلحته بهذه السرعة في بلد ليس بلده، فاعتبر أولاً "أنها رزقة رب العالمين" شارحاً أن خبرته في التجارة التي تعاطاها، ومعرفته الجيدة بأنواع البضائع وأسعارها ومصادر توفيرها، سهل له الأمر كثيراً.
ولم ينف أبو عبده في المقابل أن الخدمة التي قدمها كانت حاجة لأهالي عرسال كما للنازحين السوريين. فيشرح "أنه في سنة 2013 كنا إذا احتجنا لوقية بذر سنتوجه الى ساحة البلدة لإحضارها. لم يؤمن العراسلة بالإستثمار في المحلات التجارية، وربما يكون ذلك بسبب قلة عدد السكان. أما اليوم فكل شيء متوفر وفي كل مكان، ومعظم أصحاب المهن هم من السوريين، وهؤلاء لم يقتربوا من الأعمال التي يمارسها اللبنانيون، والتي تتركز جميعها في البساتين والمقالع.""الإسكافي" والبائع المتجولالإنتقال الى سوريا يبدو أسهل في المقابل بالنسبة لأبو وسيم، الرجل الستيني من القصير أيضاً الذي يعمل في إصلاح الأحذية والحقائب على أنواعها ولا سيما المدرسية، لإعالة عائلة من زوجة وأربعة أولاد.
يمارس أبو وسيم مهنته أبا عن جد. ولكن عندما وصل الى عرسال لم يكن يملك شيئا، و"إذا لم نعمل سنموت جوعاً". ولكن حينها كان أبو وسيم قد خسر كل عدته، حتى ماكينة الخياطة سرقت في بلده، كما يقول، متابعاً "اشتريت عدتي من لبنان والحمدالله اليوم لا أحتاج الى أحد."
يؤكد أبو وسيم في المقابل أنه لو لم تكن مهنته حاجة في البلدة لما كانت ستنجح. مضيفاً أن "أسرار البيوت الفقيرة هي في هذه المهنة، وهنا نكشف حاجات الأهالي غير القادرين على استبدال مقتنياتهم القديمة". ويؤكد أن هذه الحاجة هي عند اللبنانيين كما السوريين، ولذلك لا يبدي قلقاً من أن يفقد مهنته عندما يعود الى سوريا، ويقول سأحمل ماكينتي وأنصب خيمة في بلدي وأعمل، وسنؤسس حياتنا أنا وعائلتي مجدداً، درجة درجة. وإذ يحدد موعد العودة عند انتهاء فصل الشتاء، يعرب عن سعادته للعودة الى القصير التي سمع أهلها يوماً أنه لم يعد مسموحاً بعودتهم.
لأيوب، الشاب العشريني الذي كان عمره تسعة أعوام فقط عندما نزح من بلدته النظارية، قصة أخرى.يبيع أيوب الكنافة على عربة في وسط الطريق العام الذي يؤدي الى وادي حميد. لم يتسن له إكمال دراسته في لبنان، واكتشف باكراً صعوبة الحياة التي تطلبت عمله الى جانب والده. إمتهن صناعة الحلويات في أحد معاملها بعرسال، ومن ثم قرر أن يستقل بمهنته. عربة الكنافة هي مصدر رزق أساسي لعائلة أيوب، وستبقى كذلك عندما يسبقه هؤلاء الى النظارية لترتيب أمور منزلهم والإستقرار فيه. حينها كما يقول ستكون هناك حاجة لمصدر دخل مضمون، وهو قرر أن يبقى مؤقتاً في عرسال حتى يوفره. يشعر الشاب أنه سوري بالهوية ولبناني بالهوى، ألا يقول المثل الشعبي "مطرح ما بترزق إلصق".
متفائل الشاب بمستقبل سوريا واقتصادها. ويوضح أنه ما إن تستقر أوضاع عائلته سيحمل عربته ويغادر مع مهنته الى بلدته، مؤكداً "أن الناس ستحب كنافته هناك كما تحبها في عرسال."