2024- 12 - 24   |   بحث في الموقع  
logo "ملفات نتنياهو": حرب غزة تغطي على تهم الفساد logo جنبلاط أهدى الشرع "تاريخ ابن خلدون": الأبعاد والمعاني logo حامد بن عقيل وكارثة قتل المعنى وخيانة ماركيز logo الشرع المقيم بقصر الشعب: تحولات للاحتضان الخارجي وولاءات الداخل logo عين الأتراك على حلب.. الفرصة مواتية لاسترجاع الاستثمارات logo اتفاق لوقف النار أم وثيقة "استسلام" تحت سقف 1701؟ logo جعجع وريفي عرضا هاتفيا لقضية الموقوفين الاسلاميين logo إسرائيل تعترف باغتيال هنية: سنضرب الحوثيين في الحديدة وصنعاء
حامد بن عقيل وكارثة قتل المعنى وخيانة ماركيز
2024-12-24 00:25:42

[لن تعود روح "خوزية أركاديو" لترفرف في الأجزاء المقبلة من مسلسل "مئة عام من العزلة"]
لم يعد كثيرون يفرّقون بين الصورة وبين الحرف، حتى في وسائل التواصل الاجتماعي؛ السناب شات والتيك توك التي تشبه تماماً، لدى كثيرين، ثريدز وإكس وفيسبوك، على الرغم من الأولى بصرية قد تتبعها الكتابة لإضافة الشروحات، بينما الثانية كتابة قد تدعمها الفيديوهات والمواد البصرية. هذا الأمر كان شائكاً منذ ظهور التلفزيون، فقد تسيدت الشاشة وواكبت، لترتد الكتابة إلى منزلة التعليق والتحليل لا أكثر، فالكتابة لن تستطيع في يوم ما أن تضيف إلى فتوحاتها كلمة "مباشر"، لا في نقل مطاردة اللاعب الشهير الذي قتل زوجته في تسعينيات القرن الماضي مثلا، ولا حتى في نقل مباراة ملاكمة تصبغ الشاشة باللون الأحمر ومشاهديها بالسطحية التامة للتلقي الخالي من أي وجهة نظر، فهي ليست محايدة بل بلهاء بلاهة متراكمة، إذا لن يدرك إلا القلة القليلة خطورة زوايا التصوير، أو ميول المخرج، أو أجندة معديّ النزال؛ في المعارك الشخصية كما في القتال الدائر على خطوط التماس المتزايدة في هذا العالم الكئيب.
كنتُ أفكر في كل هذا وأنا أشاهد الحلقة الأخيرة من الجزء الأول من مسلسل "مئة عام من العزلة"، المسلسل الذي يُعدّ خيانة لماركيز في قبره، واعتساف الورثة لروايته الخالدة، وهي التكريس الكامل لبشاعة الصورة التي تصادر فضاء الكتابة وعلاقتها بالخيال. مشاهد كثيرة سفحت دم الرواية وتعمدت أن يبكي الكاتب الكولومبي في مثواه الأخير، فالبداية التي جاءت للقفز على مقدمات الأسطورة المؤسسة لقرية ماكوندو تجاهلت أم جدة أورسولا التي أسس لها زوجها بذرة مدينة في أحد الجبال البعيدة عن البحر، على هيئة غرفة بلا نوافذ حتى لا يقفز منها قراصنة أحلامها فيصيبها الأرق، كان القفز سمة البداية في المسلسل، حتى جاء القفز في هيئة مشوهة ليطال رسم شخصية خوزية أركاديو بوينديا الأسطورية؛ لقد قتلوه فعلا، بدءاً من خياله الجامح حين يقص على حفيديه حكاياته التي يؤمن بأنها حقيقة كالمشي على الماء في بحر إيجة، وآلة خفض الحرارة والقرد الذي وصل به الحد عند ترويضه أن يقرأ الأفكار، تلك الكتابة التي أنتهكت تماما، فهي ليست الكتابة التي جعلها ماركيز أساسية لمعرفة طبيعة هجرة خوزية ورفاقه التي حدثت سابقا، ومبرر علاقته مع صديقه الغجري، وسبب ليبرالية مدينته الجديدة التي بنيت قُبيل البحر بقليل، البحر الذي غادره زوج أم جده أورسولا لينجو بها من كوابيسها، ثم هناك موته الأسطوري، موت خوزيه أركاديو، إذ لا ورود فيه لذكر نبوءة عودة الخادم الذي فر من الوباء قبل سنوات ليعود كي يحضر موت الملك، يعني خوزيه أركاديو المؤسس، وليس فيه ذكر للعزلة الاختيارية تحت شجرة الكستناء، التي يعود إليها خوزيه بعد تحريره منها بعد جنونه الاختياري أيضا، وكذلك أحاديثه مع عدوه الميّت الذي تبعه إلى مدينته الجديدة، ولا حواراته البديعة مع الراحلين.
جاء موت خوزيه المؤسس لمدينة ماكوندو عادياً، تم العبث به كموت ابنه البكر الذي يجزم المسلسل أنه انتحار، رغم أن الرواية تلمح إلى مشاريعه المستمرة، والصيد الذي علقه ليعود لتمليحه لاحقا، ودوي رصاصة في غرفته لم يسبقها وصف لوجوده وحيدا، أو أنه دخل غرفته وأغلق بابه، كما جاء في المسلسل. جاء موت العجوز مؤسفا وعاديا، فقد وردت عبارة "أنهكته الشمس والمطر" في المسلسل وكأنه فان لا قيمة له، بينما كانت العبارة في الرواية هي: "صهرته الشمس والمطر وطوره تعاقب الحر والبرد"، فالصهر يعني إعادة الصياغة، أو العمل على تذويب معدن نفيس وله معناه الخاص في طوره السابق فيتم تذويبه ليخلق منه الصانع معدنا جديدا ونفيسا، كذلك التطوير المقترن بالفصول وبالتالي بالزمن يعني التحول والصيرورة إلى ما هو أفضل. نهاية كتبها ماركيز لبطله الأسطوري حتى تستمر الرواية، وليعبر عن الموت كحالة تحول وصيرورة وتطور، كما في عوالمه السردية كافة، لم ولن أنسى معنى الموت عند ماركيز في أجمل غريق في العالم.
لقد تعامل القائمون على المسلسل مع الموت وسردوه بعادية وفق ما تمليه الصورة بمحدوديتها لإغلاق الفصل الأول، والذي يشي بأن القادم سيكون مبتورا، منبتّا، كما جاءت المقدمة مبتورة ومنبتة عن أسطورة أم الجدة، وعن مخاوف أم زوجة خوزيه أركاديو حين عارضت زواج ابنتها.
يبدو أن الشاشة، لم تعد سابقة على الكتابة فحسب، بل تستمر في تدمير الخيال الكتابي بحجة نقله إلى فضاء جديد، الأمر الذي حدث مع زوربا قبل ما يقرب من ستين عاما، رغم أن من جسد شخصية زوربا هو الممثل أنتوني كوين، لكن ستبقى الصورة مجرد قتل بدم بارد لحروف تتوسل على الدوام أن تجعل المعنى حرّا قابلا للبناء مؤثرا في الخيال، وهو ما تحققه عبر السنوات وتتابع القراءات، إلى أن يأتي من يفرض رؤيته الشخصية، ويمارس وصايته على المعنى، ويعذّب الكاتب في قبره بالتواطؤ مع ورثة لا يعون حجم الكارثة.رفض ماركيز تحويل روايته مئة عام من العزلة إلى فيلم أو مسلسل، ومن يشاهد المسخ الذي أنتجته نتفليكس، سيعرف لماذا كان رفض الكاتب مستمرا حتى موته وإصراره على أن تبقى الرواية في فضاء اللغة فقط. فهذا المسلسل الرديء سيستمتع به جدا من لم يقرأ الرواية، أو من قرأها منذ زمن طويل ونسيها. كما أن هذا المسلسل سيحتل ذاكرة هذا الجيل والأجيال القادمة، الأجيال التي تخلط بين الصورة وبين التدوين، وستعتقد على الدوام أن المسلسل يغني عن مدونة ماركيز، الذي تم انتهاكه ككاتب، وكإنسان لم يحترم أحد وصيته، وبرفقة ما تم في حالته من انتهاك جاءت شركات الزمن الاستهلاكي، لتنتهك رائعة أخرى من روائع الأدب الإنساني الذي لن يعود خالدا.
(*) مدونة نشرها الكاتب والشاعر حامد بن عقيل في صفحته الفايسبوكية


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top