في الطريق إلى القصر الجمهوري في دمشق، أي قصر الشعب، الواقع على إحدى التلال المقابلة لجبل قاسيون. ينفتح الاوتستراد الواسع على حركة مرور كثيفة. يقول السائق، "أيام حافظ الأسد، وفي فترات من عهد بشار الأسد، كان هذا الطريق مقفلاً، ويُمنع المرور عليه من قبل المدنيين، هذا أحد أجمل الشوارع في دمشق وكنّا محرومين منه". لدى الوصول إلى مدخل القصر، يشعر السائق بكثير من الارتباك، إنها المرّة الأولى التي يصل فيها إلى تلك النقطة، يسأل بعض العناصر المولجين بالحماية عن كلمة السرّ واسم الشخص المنسّق معه للدخول. هناك سيارة ذات لوحة عائدة لـ"إدلب" تشق لك الطريق إلى أمام باب القصر، السائق لا يصدّق أنه وصل إلى هذه النقطة، ويقول "كنّا نخاف المرور من هنا".
أهل الشامفي الداخل سكون عميم. قصر ضخم متفرّع بأجنحة وآفاق واسعة. شبان يتولون مهمة الاستقبال، كما معظم المحيطين بأحمد الشرع، هم بعمر الشباب. في قاعات الاستقبال وفود من مناطق مختلفة، أبرزهم كان وفد من وجهاء دمشق، مثل هؤلاء يحضرون دوماً في القصر، ويحرص الشرع على إبقائهم في محيطه. هو في الأساس، كان قد ربط علاقة قوية بالكثير من "أهل الشام" الذين انتقلوا إلى إدلب بالسنوات الماضية، وهم يرافقونه حالياً في دمشق. بعض وجهاء دمشق يشاركون في الكثير من الاستقبالات. يأتي الشرع إلى دمشق محمّلاً بتجربة يرى فيها نجاحاً من خلال إدارته على مدى السنوات الماضية لمحافظة ادلب، سياسياً، أمنياً، عسكرياً، واقتصادياً.ففي السياسة، نجح في عقد تحالفات كثيرة لتعقد العصمة له هناك، وصولاً إلى لحظة التوسع من إدلب إلى حلب وحماه، وبعدها حمص ودمشق. أمنياً وعسكرياً، مارس القوة ليتمكن من الحفاظ على قوته وضبط الأمن، وخاض مواجهات كثيرة مع متطرفين كثر من الذين استمروا على فكرهم القاعدي. أما اقتصادياً، فهو راكم على تجارب متعددة، العلاقة مع تجار الشام وحلب الذين انتقلوا إلى ادلب، والاستفادة من الفرص التركية المتاحة، إذ أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في إدلب كانت أفضل من دمشق.الاحتضان والتأييديغصّ القصر الجمهوري في دمشق بوفود كثيرة، وزيارات ديبلوماسية تشير إلى إعادة الحيوية السياسية إلى سوريا، ما يوحي بالكثير من الانفتاح على الإدارة الجديدة، غربياً وعربياً، ليبدو وكأن الرجل يحظى باحتضان، تأييد، وفرصة تعطى له لإدارة سوريا في المرحلة المقبلة. تأتي الوفود محمّلة بتساؤلات، وملاحظات، حول شكل الحكم، والمرحلة الانتقالية، وآلية إدارتها، وكيفية توفير الضمانات للأقليات ومختلف المكونات، وغيرها من الطروحات. يبدو الشرع كثير الاستماع، وهو في العادة مقلّ في الكلام. يشير المشهد إلى مسارعة إقليمية ودولية للتعامل مع الواقع الجديد، واحتضانه حتى وتوفير سبل الدعم. بالإضافة إلى وجود طموحات استثمارية كثيرة لدول وشركات عالمية، تعتبر أن سوريا سوقاً كان مغلقاً وأصبح الآن مفتوحاً، وهي أرض بمقدار ما هي خصبة، يبقى فيها عطش كبير لأي استثمار خارجي.
بعد انتهائه من الاستماع، يحصر الشرع أفكاره ببضعة جمل، فيقدم الإجابات الوافية. وفي أماكن أخرى يستطرد في الشرح لدى تقديمه رؤية سياسية تتوزع ما بين الوضع السوري الداخلي والخارجي، ليظهر بأنه يمتلك إلماماً واسعاً في الملفات المتشعبة، ويعتبر أن نجاح الثورة السورية جنّب المنطقة والعالم بذور حرب عالمية ثالثة، بنتيجة التداخل والتصارع والتقاطع بين دول وقوى عديدة فوق الأراضي السورية. ينتقل ليقول إن ما يسعى إليه هو تكريس سوريا الموحدة، التي لديها علاقات جيدة مع الجميع، بناء على مشروع وطني سوري، وليس ربطها بمحاور أو قوى إقليمية. يبدو واثقاً من نفسه ومن مشروعه، والذي يرتكز على رفض أن تكون سوريا ساحة، أو مقراً أو ممراً لعمليات أو سياسات تهددها أو تهدد الدول الأخرى.تركيا وقطرالرجّل معتد بنفسه، في كل إجاباته لوفود رسمية، أو غير رسمية، يبدو واضحاً في رفض الظهور بأي موقع ضعيف، ويرفض أن يظهر وكأنه "مُهَيمنٌ" عليه. يخرج مجالسه بانطباع أنه قارئ جيد للتطورات الإقليمية والدولية، وأنه عرف كيفية استغلال الظرف الدولي والإقليمي للقيام بخطوته الأخيرة وتوجيه الضربة الكبيرة للنظام السوري والوصول إلى دمشق. ما توحي به الأجواء في دمشق، وبفعل الاندفاعة الدولية والعربية، أن لا أحد يريد لسوريا أن تعود ساحة صراع متفجر تطال شظاياه كل المنطقة. وهذا ما يعرف الرجل كيفية المراكمة عليه.
ومما لا شك فيه أن هناك انطباعاً بالتقدّم التركي الذي أحرز في سوريا، وهو يحرص على العلاقة الممتازة مع أنقرة، وذلك ترسمه ملامح اللقاء والعناق بينه وبين هاكان فيدان. وتتوالد قناعة أخرى أن أنقرة هي الداعم الأساسي سياسياً، وعسكرياً، في مقابل أن قطر ستكون حاضنة ورافعة اقتصادية كبرى لسوريا. في المقابل، ثمة حرص لديه على فتح العلاقات مع كل الدول الأخرى العربية والإقليمية. هو يعرف جيداً حساسية واستراتيجية وأهمية موقع سوريا في المنطقة، وأنها ستكون مقصداً لدول كثيرة، ولا يبدو أنه في وارد إضاعة أي فرصة. وفي هذا السياق تأتي زيارة وفود عربية، من قطر، السعودية، الأردن ومصر.
الوضع الخارجي يبدو جيداً، بينما التحديات الأكبر تبقى داخلية، ولا سيما في آلية إدارة المرحلة الانتقالية، وتشكيل اللجنة التي ستعمل على تشكيل الدستور. وهو قد بدأ بعقد لقاءات مع مكونات مختلفة، لاختيار ممثلين منها لصياغة الدستور الجديد، ولدى السؤال عن الذين ستتشكل منهم اللجنة، يأتي الجواب بأنهم سيكونون من الأكفاء والاختصاصيين ومن اتجاهات مختلفة. في هذا المجال، يرفض الرجل الدخول في التفاصيل، ويفضل إحالة هذه المسائل إلى أهل الاختصاص، كما يقول.بناء الجيشينهمك في كيفية إعادة بناء الجيش، وحلّ الفصائل. وقد أعلن أن هيئة تحرير الشام مستعدة لحلّ نفسها بداية، على طريق البدء بتأسيس جيش وطني جديد، يقول ذلك في محاولة لإقناع كل الفصائل الأخرى، وسط تضارب في الآراء والتوجهات بين معالجة كل المشاكل الأمنية والعسكرية قبل حلّ الجيش، أم بعده. كمثل الجيش الوطني في الشمال والذي يفضل أن يؤجل عملية الاندماج في الجيش الوطني إلى ما بعد حلّ قوات سوريا الديمقراطي لجناحها العسكري. كما هناك آراء تشير إلى أن الجيش السوري والذي كان خاضعاً لإمرة نظام الأسد لا يزال موجوداً ويحتفظ بقدرات، غالبيتها تتركز في البيئة "العلوية". هنا يبرز رأي بأن لا يتم حل الفصائل قبل الوصول إلى صيغة واضحة لمعالجة مراكز القوى داخل القطع العسكرية المختلفة، وهو ما سيتركز عليه الحوار بينه وبين وجهاء الطائفة العلوية. اذ وجه لهم دعوات لعقد لقاءات معهم. وهم يقدمون الكثير من المطالب، حول حماية وضعهم ووجودهم ودورهم، فيما هو يؤكد أنه يرفض لغة الثأر والانتقام، وأنه يهتم ويركز على مرحلة بناء الدولة، وهذه تقتضي أيضاً من وجهاء الطائفة العلوية المساعدة في سبيل تسليم الكثير من المطلوبين والمتورطين بارتكابات كثيرة، مع تعهد بمحاكمتهم من قبل القضاء. لأن ذلك سيكون المدخل الصحيح لإرساء التوازن ومنع حصول الكثير من الإشكالات أو الصراعات.
يظهر الرجل بأنه حريص على كل المحيطين به، ويعطي الفرصة لجميع من والاه وناصره على مدى السنوات المقبلة. يريد لهذه الأشهر الثلاثة أن تكون كذلك، لكنه في المقابل لا يبدو متسامحاً مع أي خطأ يمكن أن يقدم عليه أحد المسؤولين لديه. وقد اتخذ قرارات كثيرة بهذا الشأن. يتعاطى معه الناس، والديبلوماسيون بأنه الحاكم الفعلي لسوريا، وهو سيكون كذلك كقائد عسكري وصل إلى دمشق وحررها، ويسعى إلى توحيد سوريا. لكنه أيضاً يبدو واضحاً في حاجته إلى ضم الجميع إلى جانبه، وهو ما سيكرّس لاحقاً تغييراً في الكثير من الوجوه المحيطة به.