كانت ولادة أخي محمد عسيرة. وبقيت العائلة تتعامل معه بعناية خاصة، كونه الأخير بين تسعة حملهم بطن الأم، التي كانت تعطيه من اهتمامها أكثر من الآخرين، مدركة بأنها مع ولادته، أكملت مهمتها المقدسة التي لم تكل منها. وأظن أنها قبلت التوقف عن الإنجاب على مضض، وكانت ترغب بالمزيد من الأبناء والبنات، لكن الطبيب نصحها بالتوقف عن انهاك جسدها. ومع كل الاهتمام الذي حظي به عائليا، لم يتصرف محمد على أساس أنه الشخص صاحب الامتيازات، حتى أنه كان يرفض أن نساعده في حل فروضه المدرسية، ويفضل أن يقوم بها بنفسه، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية التفاصيل الحياتية الأخرى، ومال شيئاً فشيئاً إلى التصوف والزهد، متأثرا بسلوك شقيقي موسى، الذي يكبرني، صاحب الطريقة وراعي الزاوية وإمام الدراويش.
سقط محمد في 20 آذار عام 2013 في مواجهة مع ميليشيات ما يعرف بـ"الدفاع الوطني"، التي شكلها نظام الأسد في عام 2012، من الحثالات والأشقياء كأحد الأذرع العسكرية المأجورة للدفاع عنه، بتمويل من رجال أعماله، وخاصة ابن خاله رامي مخلوف. وبلغ تعدادها قرابة 100 الف، وكان المسؤولون عنها ينشطون في تجارة المخدرات، وعلى صلة بحزب الله والحرس الثوري الإيراني. وقد سيطرت في بعض المدن على مقرات لحزب البعث، ورفعت شعارات وصور ذات طابع طائفي تظهر تبعيتها لإيران مثل صور زعيم الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس، الذي قتلته المخابرات الأميركية في بغداد إلى جانب قاسم سليماني في عام 2020.
وفي التفاصيل أن مجموعة من هؤلاء اقتحمت الحي الذي يسكنه شقيقي في مدينة الحسكة، وحصلت اشتباكات نارية لقي مصرعه فيها، وحين ذهب الأهل إلى عين المكان وجدوا أنه تلقى طلقة في رأسه، ولم يكن مسلحاً، ما يعني أنه تمت تصفيته بقرار مسبق ومدروس. لقد كان مستهدفاً رغم أنه من دعاة السلمية، ولم يكن صاحب نشاط سياسي، وحتى مشاركته في الحراك الداعي لاسقاط النظام، كانت نوعاً من الواجب الأخلاقي، الذي أملاه عليه شعوره برفع الظلم والتمييز ومواجهة الاظطهاد.
لم يبلغني الأهل خبر مصرعه في حينه، من أجل تجنب تبعات إثارة المسألة إعلامياً، وظل الأمر مخفياً عني حتى تمت تصفية ميليشيات الدفاع الوطني في الحسكة على يد القوات الأمنية، بسبب صراع النفوذ واقتسام عوائد تجارة المخدرات، وقد تم قتل مسؤولها في محافظة الحسكة المدعو عبد القادر الحمو في نيسان 2021، والذي حمته قوات النظام بتوجيه إيراني، مقابل ضمان ولائه وتنفيذ أجنداتها، واستمر ذلك حتى حاول الظهور بمظهر القوي والتمرد على مشغليه، فارتأت قوات النظام وبعد مناقشات مطولة مع مسؤول الملف الإيراني بالمنطقة، الحد من صلاحياته ووقف انتهاكاته وتجاوزاته، وما أثارته من غضب شعبي خاصةً بين أبناء القبائل وعلى وجه التحديد قبيلة الجبور العربية، فارتأوا أن تقليم أظافره ربما يساعدهم لاحقاً في تكوين صورة مقبولة لدى القبائل والعشائر، كما حاول النظام من خلال قنواته إرسال رسالة أنه أنهى ملف عبد القادر حمو لكسب ود القبائل واستقطابهم، بعيداً عن فلك الإدارة الذاتية الكردية لشمال وشرق سوريا.
إن تصفية حمو لم تنه ميليشيات الدفاع الوطني، وبقيت تبث الرعب وتمارس القتل والسطو، ولذلك لم يتمكن أهالي الضحايا من الجهر في تشييعهم وإعلانهم شهداء من أجل الثورة، وظل بعضهم، كما هو حال أخي، لمدة أكثر من عقد بمثابة الشهيد المكتوم، لا تستطيع العائلة التصريح عنه، ولذا يجب أن يكون ملف جرائم هذه الميليشيات أحد ملفات محاسبة العهد السابق، وأن يتضمن ذلك حصر كل الانتهاكات التي قاموا بها، واعتقال من بقي منهم، وانصاف عائلات الضحايا وتعويض ذويهم معنويا وماديا. وبلغني من عديد عوائل المتضررين من هذه الميليشيات، أنها ليست في وارد التنازل عن محاكمة المجرمين والقصاص منهم. ويعوّل أهالي المتضريين على الحكم الجديد بحفظ الحقوق القانونية والمعنوية، واعتبار كل الذين تضرّروا منها أو قضوا على يدها كبقية الذين تعرضوا للانتهاكات أو استشهدوا خلال الثورة، ومراحل النضال ضد النظام، وما ينطبق على البقية ينسحب على هؤلاء.