لا شكّ في أنّ الشعب السوري قد طوى حقبة طويلة كان فيها مشهد الحرّيات مشوّهاً، واليوم بدأ بتلمّس طريق طويل في مسار بناء حرّيته، التي اختبر نفحات عطرها في أيّامها الأولى بعد سقوط النظام.
هذا الاستحقاق يدفعنا للتفكير مليّاً بمفهوم حرّية الشعوب، ومدى ارتباطه بمفهوم الكرامة الوطنية، وما الفرق بينهما، وهل تكفي حرّية التعبير والمعتقد والإعلام وممارسة الشعائر والانتماء لأن تبني كرامة وطنية قادرة على صون سيادة ومصالح وهويّة الدولة السورية؟
للإجابة على هذا التساؤل نقول إنّ حرية الشعوب هي القدرة الجماعية لشعب ما للتعبير عن رأيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي أمر أساس في بناء المستقبل؛ والشعب السوري اليوم يكافح لصياغة إطار جامع تكون فيه مساحة الحرّية هي المعيار، وهي التصميم السياسي المنشود الذي يفترض أن ينعكس إيجاباً على خلق مناخات من الطمأنينة والاستقرار، وبها ينبغي أن يُطلق العنان للطاقات السورية الكامنة بأن تعمل وتبدع وتسهم في إعادة إعمار البلد والاقتصاد المتضرّر نتيجة التوتّرات على مدى سنوات، إضافة لحزمة العقوبات المفروضة على سوريا منذ العام ٢٠١١ وصولاً إلى قانون “قيصر”.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الحرّيات العامّة هي مدماك أساس في بناء الوعي السياسي والاجتماعي في أيّ أمّة، وهي مرتع للعقل ينمو به ويتفاعل ويبدع، وتقويض الحرّيات غالباً ما يقيّض حيوية الإبداع، ويصنع من العقل أداة مطواعة في يد الجهة المتحكّمة بهامش الحرّيات، فتجعله يخشى التفكير من خارج السياق النمطي المفروض.
أمّا الكرامة الوطنية فهي شيء مختلف، يتكامل ويتناسق مع الحرّيات العامّة، وهي نتيجة تفاعلية معها، لكنّها تبقى الإطار الأكبر والأوسع في تشكيل كرامة الأمّة بشكل مبني على اعتبارات أكثر عمقاً واستراتيجية، وبمعنى آخر أنّ الكرامة الوطنية تشكّل الشعور الجمعي لشعب ما بالاعتزاز والفخار النابع من انتمائه لهوية ما، وذلك يحدث بسبب أنّ تلك الهوية تجسّد في تكوينها مكانة الشعب التاريخية والثقافية، وتعبّر عن تطلّعاته في كافّة الميادين، والثقة بأنّ هذا التكوين الذي ينتمي إليه الشعب هو صاحب سيادة مطلقة، ويمتلك ما يكفيه من القوّة لصون مقدّرات الأمّة ومصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية، وله القدرة على تطويع الجيوبولتيك، والحدّ من تأثيراتها السلبية والعمل على لعب أدوار تمكّنه من الإمساك بقضايا محوريّة تدفع بأيّ طرف أجنبي تسوّل له نفسه المساس بمصالح الدولة العليا أن يتذكّر بأنّ هذا المساس سوف يترتّب عليه الكثير من التبِعات.
بناءً على كلّ ما تقدّم، نريد القول ليست بالحرّية الفردية وحدها تحيا الشعوب، وهذا ما نأمله من الشعب السوري العزيز، والذي ما زال يشكّل “قلب العروبة النابض”، وندرك أنّ حجم الآلام كبير، لكن هناك تحدّيات وآمال تحتّم على أشقّائنا السوريين إدراك أنّ هناك أعداء في المنطقة والإقليم والعالم متربّصين بموقع سوريا المحوري ومكانتها الإقليمية، وعلى رأسهم أميركا، والكيان الصهيوني المتمادي، والذي يشهد تاريخه بأنّه لا يفهم بغير لغة القوّة وخلق توازنات الردع بوجهه لصدّه، حيث أنّ كلّ الأطماع الأجنبية تهدف لتحييد سوريا، وشطبها من معادلات الإقليم وتفريغها من الشعارات والقضايا الكبرى وتحويلها إلى “دولة ساذجة”، تعيش لأجل العيش، وتفتقر إلى أدنى مقوّمات الدولة وهي السيادة الحرّة المستقلة، فتجعل منها مطيّة لتجاذبات الإقليم ومخطّطاته دون أيّ قدرة على المواجهة.
وفي هذا السياق نقول أنّه على الشعب العزيز أن يعي بأنّ خطاب شتم الشيطان لم يعد يجدي نفعاً، واليوم أصبح أمام امتحان صياغة خياراته الوطنية التي تحمي حرّياته، وتؤسّس لعقد اجتماعي يستطيع أن يذيب في بوتقته جميع المكوّنات على قاعدة التاريخ والانتماء والمواطنة والمساواة، وليس بمنطق الأكثرية والأقلّية، ثمّ بلورة استراتيجية دور سوريا الإقليمي الذي يفترض أن يكون مبنياً على مرتكز محورية دور سوريا وسيادتها ووحدة أراضيها.
من هنا، إنّنا نراهن على وعي شعبنا الشقيق في سوريا العروبة بأنّ ديناميكيات التاريخ والثقافة، والاستفادة من تجارب حيّة وحديثة شاخصة أمامنا مثل العراق وليبيا، سوف تكون روادع ومحاذير تحول دون الوقوع في أخطاء قد تجعل من البعض يوماً يتباكى على الماضي، ليس على نظام سابق، بل على بُنية دولة أسقطها النضال نحو الحرّية وتعثّر في بناء البديل المنشود.
The post سوريا بين نيل الحرّية وتحدّي الكرامة الوطنية!.. بقلم: حمد رستم appeared first on .