لم تكن عبارة "استثنائياً ولمرة واحدة" التي استخدمت كثابتة في كل مرة لإجراء تعديل أدى لانتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية على مدى حقبات سياسية طويلة، المرة الأخيرة للمخارج القانونية لدستور خاضع للنقاش، على قاعدة الحاجة "أم التعديل". وربما لن تكون الأخيرة اليوم مع اقتراب لبنان من الاستحقاق الكبير. ففي حال تم الاتفاق السياسي يبقى ما تبقى مجرد تفاصيل، حينها لن تعود جلسة التاسع من كانون الثاني من العام المقبل، معركة أرقام أو مواصفات، بل معركة اتفاق وحاجة باتت أكثر من ملحة لانتخاب رئيس لبلد منهك عانى ما عاناه. فهل تسعف هذه التخريجات انطلاقاً من السوابق المتلاحقة في لبنان، قائد الجيش، العماد جوزف عون، في حال تم التوافق السياسي على اسمه للوصول إلى قصر بعبدا؟
التحفظ المسيحيبات بحكم المؤكد، أنّ الأحداث الأخيرة التي عصفت لبنان قدّمت فرضية قائد الجيش على غيره من أسماء المرشحين. الطريق من اليرزة إلى بعبدا على مر تاريخ لبنان الحديث كان معبداً بمتلازمة "عُرف القائد والرئاسة"، واليوم كلمة السر الخارجية قد تكون فككت أحجيات وشيفرات الملابسات السياسية التي جعلت الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط يسارع إلى اعلان كتلته تأييدها انتخاب عون رئيسًا للجمهوريّة، بعد زيارة قام بها جنبلاط إلى عين التينة. بينما لا يزال التحفظ "المسيحي" قائماً على اسم عون، وهو رهن الأيام المقبلة، ما بين رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي لم يعلن موقفاً واضحاً تجاه عون، وهو ربما يعد العدة لنفسه للترشح، على الرغم من أن خطوة جنبلاط قد تكون قطعت الطريق عليه في لعبة الأرقام، وما بين رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الرافض لفكرة انتخاب عون. يُضاف إليها موقف سوريا بحلتها الجديدة، وأي دور ستلعبه في السياق المقبل على مستوى المنطقة ككل، وما صدر عن القائد العام لإدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع، الذي قال خلال لقائه مع صحافيين قبل مدة إنّه "ليس لدينا خطط للتدخل في لبنان، واذا توافق اللبنانيون على قائد الجيش جوزف عون رئيساً للجمهورية فسندعمه".تعديل دستوريمجمل الملابسات السياسية التي توفر لقائد الجيش احتمالية كبيرة أمام بقية المرشحين، تتفوق على الدستور، مع إصرار أميركا والدول المعنية على ترشيح الرجل الذي خاض تحدي مرحلة ما بعد وقف اطلاق النار على لبنان. حينها تتغلب الوقائع السياسية على تلك "النيابية"، بما قد يزيح أولوية ما تحدث عنه رئيس المجلس النيابي نبيه بري بأنّ ترشيح عون يحتاج إلى تعديل دستوري. لذا فالسؤال المطروح اليوم، هل رجّحت الأحداث كفة الـ86 صوتاً على فكرة تعديل الدستور، وأي مخرج قانوني يمكن اتباعه، أمّ أنّ هذه المسألة العالقة ضمن فتاوى واجتهادات عدة ستنهي سيناريو عهود طويلة من اقتران المؤسسة العسكرية برئاسة الدولة كثابتة اعتاد عليها اللبنانيون منذ أيام اللواء فؤاد شهاب الذي تولى الرئاسة من العام 1958 إلى 1964؟مواد الدستوروالمعلوم أنّ المادة 49 من الدستور، وبصورة خاصة الفقرة المتعلقة بانتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى، تشترط عدم جواز انتخابهم إلا بعد سنتين من تقديم استقالتهم أو احالتهم إلى التقاعد أو انقطاعهم فعلياً عن العمل. وينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بأكثرية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالأكثرية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي.
وانطلاقاً من الفرضية التي تقول إنّه يستحيل دستورياً ترشيح قائد الجيش للرئاسة من دون تعديل الدستور، يقف البعض عند المادة 74 منه، والتي تفيد بأنّه "إذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس او استقالته او لسبب آخر، فلأجل انتخاب الخلف، يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون. وإذا اتفق حصول خلاء الرئاسة، حال وجود مجلس النواب منحلاً تدعى الهيئات الانتخابية دون إبطاء ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الأعمال الانتخابية".سوابق متكررةوعموماً لقد تكررت أكثر من سابقة لانتخاب رئيس جمهورية لا تتوافر فيه شروط المادة 49 من الدستور، لا سيما عندما تم انتخاب اللواء فؤاد شهاب عام 1958 والرئيس إلياس سركيس، انطلاقاً من وجهة النظر القانونية نفسها التي عمل عليها فيما بعد الوزير الأسبق بهيج طبارة وقدمها في ندوة "الدستور في الانتخابات الرئاسية" في مركز عصام فارس، واعتبر فيها طبارة أن "شرط الاستقالة المسبقة يسقط في حال شغور منصب الرئاسة بعدم انتخاب الرئيس قبل انتهاء ولاية السلف". حينها اعتمد بري على هذه الفرضية ودعا المجلس عام 2008 وفق المادة 74 من الدستور المتعلقة بخلو سدة الرئاسة، بعد انقضاء المهلة المنصوص عليها في المادة 73 منه، وجرى وقتها انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بعد إبرام اتفاق الدوحة، وكان بالتالي انتخاب سليمان قانونياً سليماً.
وفي العام 1998 انتخب الرئيس الاسبق اميل لحود رئيساً للجمهورية "مرة واحدة وبصورة استثنائية" خلافاً للمادة 49 من الدستور، وهكذا انتخب قائد الجيش حينها بـ118 صوتاً. وبعدها بست سنوات عدل الدستور مرة ثانية، وتم التمديد للحود بنصف ولاية انتهت في 2007.
وأُعيد انتخاب قائد سابق للجيش مرة جديدة لمنصب رئيس الجمهورية، واستمرت فترة ولاية العماد ميشال عون حتى عام 2022.مرقص: لا حاجة لتعديلواليوم، أمام توسع فرضية أن يصل العماد جوزف عون لسدة الرئاسة في حال أدت الايام المقبلة لتوافق سياسي كامل على اسمه، فهل يحتاج عون إلى تعديل للدستور، ووفق أي شروط يمكن البحث عن مخارج، كما سبق وأن حصل في الانتخابات السابقة؟
يشير رئيس مؤسسة "JUSTICIA الحقوقية" المحامي الدكتور بول مرقص، إلى أنّه ليس هناك من ضرورة لإجراء أي تعديل دستوري، عازياً السبب إلى أنّ "الانتخابات الرئاسية قد طالت بما يقارب السنتين، وبالتالي فإنّه لا موجب بعد الآن لتعديل المادة 49 من الدستور لتمكين موظفي الفئة الأولى أو ما يعادلها ومنهم قائد الجيش من الاستقالة، بسبب سقوط المهلة بالدرجة الأولى".
وبعد عامل سقوط المهلة يتحدث مرقص لـ"المدن" عن أنّ "السبب الثاني لعدم الحاجة لتعديل الدستور، باعتبار أنّه من المفترض أن ينال قائد الجيش أكثرية موصوفة تفوق الأكثرية المطلوبة لتعديل الدستور وفقاً للمادة 76 منه، وأنّه بالتالي لا حاجة لتعديل الدستور من أجل انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية".
وبالتالي كيف يكون المخرج بالقانون؟ يجيب مرقص معيداً بالذاكرة إلى ما حصل مع العماد ميشال سليمان، حينها "لم يُجرَ تعديل دستوري بل اُعتبر أنّ الأكثرية الموصوفة العالية التي حازها تنطوي ضمناً على تعديل للدستور، رغم أنّ الأصول تقضي باتباع شكليات واجراءات معينة لتعديل الدستور، ولا يمكن استنتاجها ضمناً". وبحسب مرقص فإنّه ووفق الحالة الراهنة "فانّ الشغور في الموقع الرئاسي كما أسلفنا، إضافة إلى أنّ الحكومة هي حكومة تصريف أعمال، تجعل التعديل الدستوري متعذراً وواقعاً في غير محله الطبيعي".عجز المجلس عن الانتخابولكن ماذا لو عجز المجلس عن انتخاب رئيس في جلسة 9 كانون الثاني؟ هل يتحول لهيئة انتخابية ولا يبقى هيئة تشريعية؟ يقتضي ذلك أولاً الحديث عن ضرورة احترام المادة 49 من الدستور لناحية فتح جلسة انتخابية بدورات اقتراع متتالية من دون توقف، ومن دون مدى زمني طويل يفصل بين الدورة والأخرى، بحسب مرقص. ويتابع "على أن تتوافر أكثرية الثلثين في الدورة الاولى والأكثرية العادية في الدورات التي تلي، عملاً بصراحة نص المادة 49 من الدستور، والذي يجري تحميله أكثر مما يحتمل، مما يجعل الانتخابات متعذرة بسبب الإصرار الدائم على توافر أكثرية الثلثين بينما النص لم يذكر النصاب، انما اكتفى بذكر الأكثرية فقط. ولذا، من الخطأ الشائع تحويل الأكثرية الى نصاب". أي أنّ الأعمال الانتخابية تخضع للمادة 34 من الدستور، وبحسب مرقص فإنّها "تكتفي بالنصاب العادي أي النصف زائد واحد في الدورات الانتخابية التي تلي الدورة الاولى". وكذلك فإنّ المجلس النيابي يتحول بمقتضى المادة 75 إلى هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية، وبحسب النص المذكور فإنّه يثابر على الانتخاب دون أي عمل آخر وحتى من دون مناقشة إلى حين الانتخاب. وهكذا يحب أن تكون الاجراءات وأن يرجع فيها إلى الأصول الدستورية.الطعن أمام "الدستوري"ويبقى أنّه في حال انتخب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية، وسط اعتراض بعض الأصوات على وجوب التعديل الدستوري أولاً، فقد نشهد على طعن أمام المجلس الدستوري. وبحسب مرقص فإنّه "يمكن الطعن حتماً أمام الدستوري، ولكن حظوظ الإبطال ستكون ضعيفة للأسباب التي تم شرحها والتي تجيز انتخاب قائد الجيش من دون تعديل للدستور".وتبقى جلسة 9 كانون الثاني لناظره قريبة، ومن اللواء شهاب للعماد عون، قد يصبح قائد الجيش العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية، بأكثرية نيابية يفرضها الواقع السياسي من لبنان إلى سوريا وإيران لاحقاً.