في لحظة فارقة، سار السياسي اللبناني وليد جنبلاط على السجادة الحمراء داخل قصر الشعب السوري، الذي كان يوماً ما معقلاً للرئيس حافظ الأسد، المتهم باغتيال والده الزعيم الوطني كمال جنبلاط، بعد أسبوعين على هروب الرئيس السابق بشار الأسد الذي ورث السلطة من أبيه، وأكمل مسيرته في الاغتيالات السياسية والدكتاتورية.
وللصورة أبعاد ودلالات متعددة، تحمل رمزية ستظل محفورة في ذاكرة التاريخ، وستجد مكانها في صفحات المناهج التي تسرد تاريخ لبنان، لأن بشار الأسد لم يهرب فقط من القصر الرئاسي في دمشق، بل من سوريا بأكملها، نحو روسيا، مع انتصار الثورة السورية أخيراً، وسيطرة فصائل المعارضة بقيادة "هيئة تحرير الشام" على معظم مناطق البلاد.وفي خطوة وُصفت بأنها الأولى من نوعها منذ أكثر من 13 عاماً، زار رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" السابق، وليد جنبلاط، قصر الشعب في دمشق، الأحد، على رأس وفد ضم أعضاء من الحزب وكتلة "اللقاء الديموقراطي"، بالإضافة إلى شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى، وعدد من المشايخ، في سياق تهنئة القيادة السورية الانتقالية على "انتصارهم في مسيرة الحرية"، كما تضمنت مناقشات حول ملفات محورية مثل قضايا الحدود المشتركة، المفقودين اللبنانيين، ومواضيع أخرى ذات اهتمام مشترك.والزيارة، التي تعد الأولى لمسؤول لبناني بهذا المستوى منذ سنوات، أثارت اهتماماً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية، خصوصاً في ظل الظروف الحساسة التي تمر بها المنطقة. تسعى الخطوة، بحسب مراقبين، إلى تحقيق هدفين رئيسيين: تعزيز التماسك الداخلي اللبناني والحفاظ على العلاقات الثقافية والحضارية مع سوريا.لكن أبعد من الكلمات والمناقشات، كانت للصورة رمزية خاصة. فوليد جنبلاط، ابن الزعيم الذي دفع حياته ثمناً لموقفه من النظام السوري، يعود إلى قلب دمشق، فيما غاب بشار الأسد، الذي ورث إرث والده، عن المشهد. يحمل المشهد دلالات عميقة حول تبدّل الموازين وتغير الديناميكيات السياسية، ما يعكس تباينات واضحة في الرؤى والتحركات على الساحة الإقليمية.والحال أن مسيرة العلاقة بين وليد جنبلاط والنظام السوري لم تكن يوماً بسيطة. فمنذ الحرب الأهلية اللبنانية العام 1975، عاشت العلاقة تقلبات جمّة. من تحالف الضرورة الذي جمع والده كمال جنبلاط مع القوى اليسارية ومنظمة التحرير الفلسطينية المدعومة جزئياً من سوريا، إلى توتر أعقب اغتيال كمال جنبلاط العام 1977، حيث أشارت أصابع الاتهام إلى النظام السوري.واستمرت العلاقة بالتذبذب، بين التنسيق الذي فرضته الهيمنة السورية في لبنان خلال الثمانينيات والتسعينيات، والعداء العلني الذي أعقب اغتيال رفيق الحريري العام 2005، أيضاً على يد النظام السوري، وانضمام جنبلاط إلى قوى 14 آذار المعارضة للوجود السوري في لبنان.ومع اندلاع الثورة السورية العام 2011، أيّد جنبلاط المعارضة السورية وانتقد بشدة نظام الأسد، لكنه اضطر لاحقاً إلى مواقف أكثر مرونة لحماية مصالح طائفته في سوريا، فيما بقي نظام الأسد وإعلامه يصوبون على جنبلاط بوصفه رجلاً لا يمكن الوثوق به في أفضل الأحوال.وبين الأهداف السياسية التي قد تكون وراء هذه الزيارة والتكهنات حول نتائجها، تبقى الصورة هي العنوان الأبرز، لأنها تجسد عبرة عميقة لانتصار العدالة التاريخية على الظلم والظالمين. فكمال جنبلاط، الزعيم الذي دفع حياته ثمناً لموقفه الرافض لهيمنة النظام السوري على لبنان، يقف اسمه شاهداً في هذه اللحظة الرمزية، حيث انتهى مصير الجلاد إلى الهروب والتلاشي.هذا المشهد يستحضر في الذاكرة اللبنانية مآسي سنوات الوصاية السورية، التي حفرت عميقاً في وجدان شعب عانى القمع والاغتيالات والهيمنة، لكنه لم ينسَ ولم يغفر، فيما قد تأخذ العلاقة اللبنانية مع سوريا اتجاهاً جديداً من دون نظام الأسد الذي لطالما وصف لبنان بأنه حديقة خلفية لدمشق، في الإعلام والسياسة، ولم يخف يوماً رغبته في بسط نفوذه وتأثيره على لبنان، بشكل مباشر أو عبر الحلفاء والوكلاء.