كان آخر ما رأيته في دمشق، وأنا أغادرها برفقة صديقي، الذي يقود السيارة، ويتكفل بالحواجز، مشهدًا يضم جبل قاسيون في عمقه، وقطعة أرض جرداء، على جانب الطريق، الذي ينقلنا، من طريق المطار، باتجاه منطقة السيدة زينب.
الحاجز القريب من قصر المؤتمرات، لم يهتم برؤية هوياتنا، رغم سمعته السيئة جدًا، إذ اشتهر أن عناصره يقومون باعتقال الناس، وأحيانًا بتصفيتهم. ولهذا تسمرت في المقعد، ونحن نعبر، ورسخت الصورة في رأسي، كما سترسخ بعدها صور متعددة، رافقتني في رحلة الهروب.
قرب الحاجز، اكتشف ناشطون منذ أيام، بحسب الأخبار، مقبرة جماعية قدّروا عدد المدفونين بالالاف ضحية، تمت تصفيتهم على يد أجهزة الأسد الأمنية! حاولت أن أنقّب في رأسي عما يفيد من الصور القديمة لمعرفة إن كانت قطعة الأرض التي عبرنا بجانبها هي تلك المقبرة، لكنني فشلت في ربط هذا المكان بما تناقلته وسائل الإعلام. في المقابل، وجدت أن الصور المنشورة عن المكان تشبه كثيرًا البقاع التي أتذكرها عن البلاد.
في وقت ما أثناء دراستي للفنون المسرحية، سمعت أحد الزملاء يقول إن من ينظر صوب دمشق من على جبل قاسيون، لا بد أن يسأل عن عدد القصص التي يمكن لكل دمشقي أن يرويها. وبحسبة "هوائية"، لا بد أن تكون النتيجة "مليارية"، فكل دمشقي، وبالتأكيد كل سوري، لديه ما يحكي عنه من قصص عاشها، أو مرت معه، أو سمعها من أحد ما!
لكن إذا قلنا إن عيون من يقفون على جبل قاسيون، تنفع لتحري البقاع، التي حُفرت ثم طُمرت، بعد أن رُميت فيها جثامين القتلى، لوصلنا ربما إلى نتيجة مشابهة. لقد حول الأسديون، ومنذ 54 سنة، البلاد إلى سلسلة من المقابر المعروفة والمجهولة، دون أن يستطيع أحد أن يحصي عدد من دفنوا فيها. ربما لن تكون نتائج الـ 14 سنة الماضية سوى رأس جبل الثلج الذي يظهر فوق سطح الماء!
تفنن المجرمون في طرق إخفاء جثامين القتلى، بعد أن نصحهم مجرم محترف ما بأن أفضل الطرق لإخفاء الجريمة هو إخفاء الضحية ومحو آثاره عن الوجود. ولهذا غاب جسد الشيوعي فرج الله الحلو، الذي قُتل على يد جلاوزة عبد الحميد السراج في عهد الوحدة مع مصر، وذاب في حوض الأسيد. واستمر الورثة في اتباع هذا النهج، حتى صار الأمر سياسة رسمية متبعة. فلا أحد يعرف بالضبط عدد الجرائم التي ارتُكبت، طالما أن الضحايا لم يعودوا موجودين إلا في ذاكرات أحبابهم أو على ورقة وفاة في سجلات النفوس، تم تحريرها بدون تدقيق، لمساعدة العائلة على متابعة حياتها، بعد أن تعطلت، بسبب دوام غياب معيلها أو ابنها.
في السيرة الطبيعية لكل إنسان على وجه البسيطة، يأتي الطبيب بعد أن ترحل الروح عن الجسد ليدون شهادة وفاة، فيسأل عن مرض الميت، ويجيبه أهله. لكن الأسديين اختاروا للقتلى الذين قامت السجلات المدنية بتوفيتهم مرضًا واحدًا: الأزمة القلبية. وتبعًا لهذا، فإن أوراق مبنى النفوس هي قبور أصحابها. ويمكن معرفة جزء من الحقيقة انطلاقًا منها، لكن المقابر الجماعية الحقيقية المكتشفة حديثًا ليست مجرد أوراق، بل هي تراب معجون بأجساد من قُتلوا، وما زالت تحتفظ بالأدلة الجنائية التي تدل على الفاعلين.
لهذا وجدنا مدير الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) رائد صالح، يوجه نداءً لكل من يكتشف مقبرة أو مكانًا يحتوي رفات قتلى ألا يقوم بنبشها، إذ لا بد من أن تأتي الفرق التخصصية لتعمل على ذلك بطريقة لا تُضيّع القرائن المطلوبة للقضايا الجنائية. ورغم أن العلم قد وفر للضحايا فرصة أن يتم التعرف عليهم من خلال فحص الـ DNA (الشيفرة الوراثية)، إلا أن هذا لن يكون سريعًا بما يبرد قلوب مئات الآلاف من الأمهات والآباء والإخوة والزوجات والأبناء، ممن ما زالوا ينتظرون حتى اللحظة أخبارًا عن أحبابهم ممن أخفاهم أو قتلهم الأسد.
في تعليقه على منشور كتبته حول ضرورة التسامح بعد سقوط النظام، كتب خالي: "لو أنهم أمسكوا بك خلال هروبك نحو الأردن، لكنا الآن نبحث عنك في سجن صيدنايا!" وفعليًا، لم تغادرني، منذ نجاحي في الوصول إلى عمان بتاريخ 29 أيار 2013، صورتي المتخيلة عني وأنا مقيد اليدين، أتلقى الصفعات، قبل أن يُلقى بي في صندوق السيارة الأمنية، في الطريق إلى مصيري المجهول.
ومثلما كان الجميع يحلم بأنهم يعتقلون أثناء مرورهم على أحد الحواجز الأمنية، أجزم بأن استكمالات الأحلام التي بترها الرعب تصبح هكذا، كما حلمت. ووفق التسلسل الدموي الإجرامي، سيشاهد كل واحد منا، وهو ممدد ومدمى، مشاهد أخيرة لحياته، تتسع فيها الأنحاء لتحتوي قتلى كثيرين، يعبرون معه العالم البرزخي. الأمر الذي سيجعل دماغ أي فرد عاش هنا مقبرة بذاتها!
"إذا كانت كل مقبرة تضم موتى كثيرين، لماذا لا تسمون المقابر العادية مقابر جماعية؟" أعود إلى الأوليات، لأشرح للشاب الذي يسأل أن الفرق هنا يتأتى من أن لكل إنسان الحق في أن يُدفن في حفرته الخاصة، وأن يُكتب اسمه على لوح رخامي أو خشبي أو معدني، بما يليق بالإنسان. لكن المقبرة الجماعية هي حفرة كبيرة رُميت فيها أجساد بشر كثيرين، ورُدم التراب فوقهم كي يُمحى أثرهم، بما في ذلك عقولهم وحكاياتهم وأحلامهم، من أجل إخفاء الإبادة الجماعية التي ارتُكبت بحقهم.
أي أن المشكلة ليست في العدد، بل في الطريقة والأسلوب! وتبعًا للبحث المضني عما كان يجول في رؤوس القتلة، وهم يفعلون الأمر ذاته طيلة السنوات الماضية، وحتى قبل سقوط النظام بأيام، لا بد سنكتشف أن البلد كلها كانت بالنسبة لهم مقبرة جماعية، يتساوى فيها الميتون مع الأحياء. لكن الفرق بين الطرفين مجرد حيثيات وقتية، عن لحظة الإعدام، لا أكثر ولا أقل.