لا نعرف اسم الرجل. والحقّ أنّنا لا نعرف إذا كان رجلاً أم امرأة. لكنّ التقاليد الدينيّة، منذ أقدم العصور، في ضيق مع الرواة الذين لا اسم لهم. لذا، هي لا تتورّع عن اختراع أسماء. وهكذا كان. لقد اخترع له التقليد الكنسيّ إسماً، مرتكزاً على شذرة من هنا وقول من هناك. سمّاه «يوحنّا»، واعتبر أنّه كان أحد تلامذة المسيح الإثني عشر. أبوه اسمه زبدى، وأخوه يعقوب. لم يسأل أحد كيف يمكن لصيّاد من صيّادي الجليل أن يكتب: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله». اكتفى الناس بالقول إنّ يوحنّا هذا هو الذي خطّ الحكاية الرابعة عن يسوع الذي من الناصرة. وهي حكاية لا تشبه إلّا ذاتها، وتظلّ عصيّةً على التأويل بالرغم من أنّ الشرّاح وضعوا إلى اليوم آلاف الكتب في تأويلها.
نعرف أنّ هذه الحكاية، أو «الإنجيل» الرابع كما يسمّيه المسيحيّون، صيغت إبّان العقد الأخير من القرن الميلاديّ الأوّل، ربّما على عهد القيصر الرومانيّ ذوميتيان، الذي حكم بين العامين ٨١ و٩٦. الكاتب الذي ألّف هذا النصّ العبقريّ كان من اليهود الذين آمنوا بالمسيح، إذ تدلّ عليه لغته اليونانيّة ذات المبنى الساميّ. وهو يلمّ بفنّ الاستعارة واحتمالات التورية ولعبة الدلالات المزدوجة. وقد أسبغ على روايته بنيةً أدبيّةً محكمةً تختلف جذريّاً عن الروايات التي تناولت حكاية المسيح من قبله، ما يُستدلّ منه على أنّه كان مطّلعاً على هذه الروايات، وقرّر عمداً عدم السير في ركابها. مع ذلك، هو يشترك مع الرواة الذين سبقوه في أنّ كتب التوراة لا تبلغ مرماها الأخير إلّا بالاستناد إلى حكاية الرجل الذي علّقه سلاطين هذا العالم على الصليب بعدما قضّ مضاجعهم وفضح رياءهم.
لم يكتب الراوية الذي سمّوه يوحنّا قصّة ميلاد المسيح، إذ ليس في حكايته ملائكة تتهلّل، ولا حكماء يتتبّعون النجم في المشرق. وليس فيها طفل يهرع إليه رعاة يعيشون على ناصية الفراغ في فلسطين كي يكتشفوا فيه ملكاً على صورة فقرهم. مدخله إلى الميلاد أنّ هذا الذي عفّر وجهه في تراب الجليل، واغتسل في بحيرة طبريّا، هو إيّاه «الكلمة»، أي إنّ الله يخرج بواسطته من صمت الله، ويجترح لنفسه لغةً يستطيع البشر أن يلتقطوا معانيها. بيد أنّ هذه الكلمة ليست مجرّد كلام على الله، بل هي بشر سويّ، وكائن من لحم ودم يختلف إلى القرى المتروكة في «جليل الأمم»، حيث الفقر والثورات والبشر الذين لا أسماء لهم، كي يهتف بهم أنّ الله يتذكّرهم حين ينساهم الأراخنة، ويفتقد بؤسهم حين ينشغل عنهم الملوك بنصب تماثيل القيصر في الشوارع والساحات. كيف لهذا الرجل، الذي لم تفقد حكايته شيئاً من وميضها بعد انقضاء ألفين من السنين على روايتها، أن يعرف هذه الأمور كلّها. جواب الراوية الرابع، هذا الذي جعلوه صيّاداً وسمّوه يوحنّا، يتلخّص في أنّ الرجل هو الكلمة الذي كان في البدء، ثمّ صار جسداً، أي بشراً من لحم وملح وعرق، حين تكثّف الزمن ذات يوم من أيّام فلسطين الرومانيّة. ولأنّه الكلمة، فهو النور الذي يضيء ظلمة هذا العالم. وهو وجه الله، الذي لا وجه له، إلى البشر. وهو المرآة التي تكشف للناس أنّ الله يعرف كم هم مسحوقون، وأنّه أقرب إليهم من حزنهم ويأسهم، ومن موتهم الذي يكتظّ بالموت.
هكذا كتب يوحنّا، الذي لم يكن اسمه يوحنّا، حكاية ميلاد المسيح على منواله حين أعلن أنّ الكلمة الذي في البدء صار جسداً. لعمري، لقد كان هذا الرجل (هل كان رجلاً أم امرأة؟) حاذقاً في إعادة صوغ الأمور مثل حكّاء ماهر يُطلع من الحكاية كلّ يوم حكايةً جديدة. فأخذنا إلى الميلاد من دون أن يتلفّظ بكلمة واحدة عن الميلاد، ربّما لأنّه كان يدرك أنّ البلاغة الكبرى تكمن في التورية التي تنحو إلى الصمت. ألم يقل الإغريق، عباقرة الفكر، ذات يوم إنّ الأضداد تتجاور على قدر اختلافها؟