مرت عشر سنوات على آخر دفعة لتفريغ متعاقدين في الجامعة اللبنانية في العام 2014، ولم تبادر الأخيرة إلى تفريغ أي متعاقد منذ ذلك الوقت.عشرات الاعتصامات والتظاهرات نفذها الأساتذة أصحاب الحق بذلك من دون جدوى. وفي كل مرة يطرح الملف للمعالجة كان العامل الطائفي يعيق إقراره. وخلال هذه المدة تقاعد عدد من الأساتذة أو بلغوا سن التقاعد أو فارقوا الحياة قبل تفرغهم.عام الوعود والإطمئنانالعام المنصرم كان عام الوعود لملف التفرغ بالجامعة اللبنانية بامتياز. فمع نهاية العام 2023 شعر المتعاقدون أن التفرغ بات محسوماً، جراء الوعود التي قطعها رئيس الجامعة بسام بدران ورئيس رابطة الأساتذة المتفرغين أنطوان شربل. وكان يفترض أن يقر ملف التفرغ نهاية العام المنصرم وتبدأ مفاعيله في فصل الخريف، أي مع بداية العام الدراسي الحالي 2024-2025. وبرر رئيس الجامعة اللبنانية للجنة الرسمية للأساتذة المتعاقدين أن التأخير في رفع الملف إلى وزير التربية عباس الحلبي، هدفه إعداد ملف مدروس بعناية وقابل للإقرار في مجلس الوزراء، ولا يصطدم باعتراضات أو فيتوات حزبية، كما حصل سابقاً.نام المتعاقدون على حرير الوعود بالتفرغ، وسكتوا عن تراجع قيمة أجر ساعاتهم (تراجع قيمة أجر الساعة من أربعين دولاراً قبل الأزمة إلى خمسة دولارات حالياً). وتبين أن بدران أعد ملفاً "متضخماً"، ضمنه جميع أسماء المتعاقدين في الجامعة من دون أن يراعي شرط الأفضلية بين من لديهم عقود بساعات لا تتعدى الخمسين الساعة، وبين من لديهم عقود بأكثر من أربعمئة ساعة. ولم يميز بين من مضى على تعاقده أكثر من عشرين سنة ومن وقع العقد في السنوات الأخيرة.عقدة شيعية و"فيتوات" طائفيةوأظهرت الوقائع لاحقاً، أن خطوة بدران مجرد محاولة لرفع العتب وعدم تحميله مسؤولية العرقلة. ولذا رفع كل الأسماء إلى الحلبي وبأعداد مبالغ بها، شملت جميع المتعاقدين مع الجامعة (1759 اسماً). وبمعنى آخر، كان الملف الأساسي الذي رفعه بدران بمثابة قنبلة موقوتة ستفجر عند انكشاف الأمر.لعلمه بالتعقيدات الطائفية، وبأن رفع ملف بهذا الشكل سيؤدي إلى فيتوات طائفية.رمى بدران الكرة في ملعب الحلبي، الذي حاول إعادة ترشيق الملف وخفض العدد إلى نحو 1200 متعاقد وذلك بهدف الحفاظ على مبدأ التوازن الطائفي بنحو 45 بالمئة للمسيحيين و55 بالمئة للمسلمين. استغرق البحث في كيفية ترشيق الملف أشهراً عدة. ولم تفض المحاولات إلى اتفاق. بل كسب بدران والحلبي والحكومة وقتاً طويلاً لتبرير عدم إقرار الملف.محاولات تخفيض العدد لجعل الملف متوازن طائفياً طال الطائفة الشيعية قبل غيرها، ذاك أن نسبة الشيعة في الملف الأساسي كانت مرتفعة جداً وتزيد على الستين بالمئة ما اصطدم برفض الثنائي الشيعي. وتعني محاولة استرضاء الثنائي الشيعي لقبول الملف قبل إقراره بمجلس الوزراء رفع العدد المراد تفريغهم من الطائفة الشيعية. وهذا يؤدي إلى رفع عدد المتعاقدين من الطائفة السنيّة لتأمين المناصفة بين السنّة والشيعة، كمبدأ أساسي رفض السنّة التخلي عنه. وإرضاء السنّة والشيعة يؤدي إلى انخفاض نسبة المسيحيين إلى ما دون الـ35 بالمئة، لأن عدد المسيحيين كله لا يزيد عن 500 متعاقد. كل المحاولات لإرضاء الشيعة و"إيجاد حلول خلاقة" لإقرار الملف في مجلس الوزراء باءت بالفشل. رفض الثنائي الشيعي المعايير التي عمل عليها الحلبي لتقليص الملف وفق معيار الأقدمة وحاجة الجامعة والتوازن الطائفي. وطُرحت أفكار لتقسيم الملف إلى أكثر من دفعة. لكن العقدة الأساسية بقيت من دون حل وهي التوازن الطائفي في الملف بمجمله، لاستحالة إيجاد صيغة لحل "العقدة" الشيعية، من دون خلق عقد حزبية وطائفية أخرى. ودخل الملف في حالة موت سريري. حتى أن الثنائي الشيعي أبلغ وزير التربية عباس الحلبي ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي وبعض الأحزاب المسيحية أنه "لن يمشي بالملف"، وتوقف البحث به نهائياً.تغير لجهة بدران تجاه المتعاقدينأمضى المتعاقدون العام 2024 على وقع هذه الخلافات الطائفية والحزبية في ملف التفرغ. وقبل انطلاق العام الجامعي الحالي، وسّعت إسرائيل الحرب على لبنان في شهر أيلول المنصرم. فدفن الملف بشكل نهائي. وينقل عن رئيس الجامعة نيته تشكيل ملف جديد بعد شطب أسماء الأساتذة المسافرين أو الذين وافتهم المنية. الأمر الذي اعتبره المتعاقدون ممارسة المزيد من المماطلة والتسويف، والعودة إلى نقطة الصفر.في نهاية العام 2023 وبداية العام 2024، جرت محاولات لثني لجنة الأساتذة المتعاقدين عن الإضراب. وكان بدران على تنسيق دائم مع اللجنة، ويستقبل الممثلين عن الأساتذة لكسب ولائهم من خلال إلقاء مسؤولية التأخير على مجلس الوزراء. لكن عقب بدء الحرب انتقلت الجامعة إلى التعليم عن بعد، وخفت الحاجة للمتعاقدين، أو باتت قدرتهم على التهديد بالإضراب معدومة، لا سيما أن الدروس مسجلة وموضوعة على منصة الجامعة. فبدأ بدران مرحلة جديدة من خلال التلميح إلى عدم حاجة الجامعة إلى المتعاقدين وأن الجامعة غير ملزمة بتفريغ أي متعاقد بمعزل عن سنوات خدمته أو النصاب القانوني في الجامعة. حتى أنه رفض استقبال لجنة الأساتذة مثله مثل الحلبي. وبعد ضغوط إعلامية عقد اجتماعاً كان مهيناً لهم.بعدما كان بدران يستقبل لجنة الأساتذة بشكل دائم ويحاول بالترغيب والتهريب منعهم من التلويح بالإضراب، أبلغهم في الاجتماع أن لا صفة قانونية لهذه اللجنة، وأن على المتعاقدين مخاطبة الرئاسة من خلال رابطة الأساتذة المتفرغين. وطلب منهم التنسيق مع رئيس الرابطة أنطوان شربل، كون الرابطة هي الجهة الرسمية الوحيدة التي يستقبلها للتباحث بحقوق الأساتذة.دور سلبي لرابطة الأساتذةاحتج الحاضرون بأنهم سبق لهم ونسقوا مع رئيس الرابطة، الذي وعدهم وأكد لهم أنه سيمهل المسؤولين مهلة معقولة كي يقر الملف. وفي حال شعر بأي مماطلة سيحرك الرابطة كي يقر الملف. لكن مضى أكثر من عام على الوعد، ولم تحرك الرابطة ساكناً في قضيتهم. وها هو شربل سيتقاعد بعد نحو شهرين وملف التفرغ ما عاد موجوداً.انتقدت اللجنة رئيس الرابطة أمام بدران لكونه وعدهم بأن ملف التفرغ سيقر في عهده، وأن بقاءه في رئاسة الرابطة مقترن بإقرار ملف التفرغ. بينما في الحقيقة كانت الرابطة منشغلة بحقوق ومطالب الأساتذة المتفرغين. وهؤلاء حصّلوا مكتسبات كثيرة، منها عودة قيمة رواتبهم بنسبة 80 بالمئة عما كانت عليه قبل الأزمة الاقتصادية. وانعكس الأمر بشكل سلبي على المتعاقدين، لأن الأساتذة المتفرغين توقفوا عن التلويح بالإضراب أو بالمطالبة بتحسين رواتبهم. وفقد المتعاقدون ورقة التلويح بالإضراب.التي أصبحت بلا فعالية لأن الأساتذة المتفرغين واصلوا التعليم، ولم يتضامون مع زملائهم.ينتهي العام 2024 من دون إقرار ملف التفرغ، الذي سيرحل إلى العام 2025. فهذا الملف كان وما زال متفجراً بطوائف البلد، ولا حلول سحرية تنقذ الأساتذة من هذه الدوامة القاتلة.